نص كلمة نيافة راعي الأبرشية مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم في مأدبة الإفطار الرمضانية التي دعا إليها نيافته، حضرها كوكبة من رجال الدين الإسلامي، يتقدمهم سماحة المفتي العام للجمهورية الشيخ الدكتور أحمد بدرالدين حسون، والسادة مطارنة ورؤساء الطوائف المسيحية في حلب، وذلك مساء يوم الخميس المصادف في 26 / آب /2010 :
صاحب السماحة الشيخ الدكتور أحمد بدرالدين حسون مفتي عام الجمهورية العربية السورية …
سماحة مفتي حلب الدكتور محمود عكام…
فضيلة الشيخ الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني مدير أوقاف حلب…
أصحاب السيادة المطارنة الأجلاء، ورؤساء الطوائف…
أصحاب الفضيلة علماء ورجال الدين الإسلامي…
أسعد الله مساءكم…
هذه مأدبة الإفطار مميزة اليوم، كونها تجمع نخبة من وجوه البلد ذوي اختصاص واحد، بل يمكن القول بأننا جميعاً ننتمي إلى عائلة واحدة، تعمل في اتجاه واحد، عامودياً مع الله حيث كلنا نرفع أكف الضراعة إلى خالق السموات والأرض، ونصلي أولاً من أجل أنفسنا، ثم من أجل الرعية التي نشعر بمسؤوليتنا تجاهها. وأفقياً مع الناس، أي مع جميع المؤمنين بالله تعالى مسلمين ومسيحيين ومن كل المذاهب، ونفتش كيف نسخّر طاقاتنا ومواهبنا لخدمة الإنسان.
ويبدو أن كرم صوم رمضان الكريم واضح من خلال العلاقات الطيبة، التي تجمعنا مع بعضنا بعضاً. إذ في كل سنة نكون أمام موقف أو حدث أو مناسبة، ونختار موضوعاً لأحاديثنا في هذا الشهر الفضيل. وأشعر أنه مع كل التحديات التي تمر علينا أصبحنا بحاجة ماسة في هذه الأيام لنوجه أنظارنا إلى موضوع المواطنة، الذي رغم اختلافنا في وجهات النظر من خلال تعاليمنا الدينية، ولكننا متفقون في الإيمان بالله تعالى الواحد الأحد، والانتماء الكلي لتراب هذا الوطن الغالي، والالتزام بالقيم والأخلاق التي هي نجاح كل إنسان يريد أن يكون في علاقة طيبة مع الله من جهة، ومع أخيه الإنسان من جهة أخرى.
أصحاب السماحة والسيادة والفضيلة…
اسمحوا لي أن أقول لكم بأني أرى في المواطنة السقف الأهم لهيكل البناء الذي يجمعنا كأعضاء، ولكل عضو خصوصيته، معلمنا بولس الرسول يقول في هذا الصدد : فَإِنَّ الْجَسَدَ أَيْضاً لَيْسَ عُضْواً وَاحِداً بَلْ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ. إِنْ قَالَتِ الرِّجْلُ لأَنِّي لَسْتُ يَداً لَسْتُ مِنَ الْجَسَدِ. أَفَلَمْ تَكُنْ لِذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ ؟ وَإِنْ قَالَتِ الأُذُنُ لأَنِّي لَسْتُ عَيْناً لَسْتُ مِنَ الْجَسَدِ. أَفَلَمْ تَكُنْ لِذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ ؟ لَوْ كَانَ كُلُّ الْجَسَدِ عَيْناً فَأَيْنَ السَّمْعُ ؟ لَوْ كَانَ الْكُلُّ سَمْعاً فَأَيْنَ الشَّمُّ ؟ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ الأَعْضَاءَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ كَمَا أَرَادَ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا عُضْواً وَاحِداً أَيْنَ الْجَسَدُ ؟ فَالآنَ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. لاَ تَقْدِرُ الْعَيْنُ أَنْ تَقُولَ لِلْيَدِ لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ. أَوِ الرَّأْسُ أَيْضاً لِلرِّجْلَيْنِ لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَا. بَلْ بِالأَوْلَى أَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي تَظْهَرُ أَضْعَفَ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ. وَأَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي نَحْسِبُ أَنَّهَا بِلاَ كَرَامَةٍ نُعْطِيهَا كَرَامَةً أَفْضَلَ. وَالأَعْضَاءُ الْقَبِيحَةُ فِينَا لَهَا جَمَالٌ أَفْضَلُ. وَأَمَّا الْجَمِيلَةُ فِينَا فَلَيْسَ لَهَا احْتِيَاجٌ. لَكِنَّ اللهَ مَزَجَ الْجَسَدَ مُعْطِياً النَّاقِصَ كَرَامَةً أَفْضَلَ. لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَسَدِ بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَاماً وَاحِداً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ (1 كورنثوس 12: 14 ـ 26).
هذه ليست نظرية مبنية على خيال، إنها واقعٌ وحقيقةٌ، فهيكل الوطن الكبير والواسع فيه تنوع في الأعضاء، ولكل عضو خصوصيته، ولا بد أن يحترم كل عضو العضو الآخر، وأن يدرك كل عضو أهمية العضو الآخر، وأن يعطي كل عضو كرامة للعضو الآخر، هكذا تبنى الأوطان، وكما نقول نحن في المسيحية : كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي. لاَ يَطْلُبْ أَحَدٌ مَا هُوَ لِنَفْسِهِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مَا هُوَ لِلآخَرِ (1 كورنثوس 10 : 23 و 24).
نحن لسنوات خلت بدأنا نُدخل في قاموس أحاديثنا، خاصة في مناسبات مباركة كهذه، اصطلاحات وعبارات وكلمات، نريد من خلالها أن نؤكد على انتمائنا الواحد لهذا الوطن الغالي، منها : قبول الآخر، العيش المشترك، الحوار بين المسيحية والإسلام، الوحدة الوطنية، الإخاء الديني، وغيرها من الكلمات التي أصبحت مألوفة في أحاديثنا ولقاءاتنا المشتركة، وهذا ليس بعيداً عن واقع العلاقة بين أبناء الديانتين المسيحية والإسلام منذ اللقاء الأول بينهما في القرن السابع للميلاد.
أنا أؤمن بأننا نتوخى جميعاً بناء حياة مشتركة مبنية على التعددية، وهذا يتطلب بناء مجتمع متماسك، لا تؤثر فيه الالتباسات الفكرية، ولا الاجتهادات التي تأتي من كل الأطراف، خاصة عندما نتبارى في هضم مفاهيم جديدة دخلت في حياتنا كمؤمنين، مثل : العولمة، والتكنولوجيا بكل أبعادها، والتفوق العلمي، وغيرها من الأمور التي يجب أن تكون من ايجابيات القوة التي نطالب بها، خاصة نحن المؤمنين بالله الواحد الأحد، والحاملين رسالة السموات، ولا ينبغي أن نتأثر كثيراً بنظريات تأتي من هنا وهناك.
أضرب لكم مثلاً، حتى قبل وقت قصير، كنا نستخدم عبارة الديانات السماوية أو الديانات التوحيدية، والذين كانوا يستعملون هذين الاصطلاحين كانوا ينطلقون من مفهوم ما يجمع وليس ما يُفرِّق، ولكن ظهرت رؤى أخرى جديدة شددّت على أن إطلاق تسمية السماوي والتوحيدي على الديانات لا تعبر بالضرورة عن مفهوم مشترك بيننا. فاليوم يَطرَحُ بعضُهم اصطلاحاً جديداً لهذه الديانات الثلاث، وهو ديانات رسالية أو رسولية، لأنها أتت إلى الناس برسالة من السماء عبر رسل من الله، وأنبياء يَدعون إليه تعالى ويُخبرون عنه الناس، ويقول صديقنا الدكتور يوسف زيدان في هذا المجال : سواء جاء هذا الخبر عن الله بكتاب فكان رسولاً، أو عُوِّلت دعوته على كتابٍ سابقٍ فكان نبياً.
وسواءً اتفقنا مع الدكتور زيدان أو اختلفنا، فإننا نؤمن بأن الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام هي في حقيقة أمرها تعتمد على ينابيع واحدة، ولهذا يظهر المشترك بينها كثيراً. أما الدكتور زيدان فإنه يطلق عليها اسم التجليات ويقول : تلك التجليات الثلاث الكبرى، التي تحفل كل ديانة منها بصيغ اعتقادية متعددة، نسميها المذاهب والفرق والنحل والطوائف. من هنا جاء في القرآن الكريم : لكم دينكم ولي ديني (الكافرون 6).
فالتعددية والتنوع هما غنى للمجتمع، وهنا يأتي دور التعددية الدينية التي تمثل حقيقة إنسانية علينا نحن أن نسعى لتنميتها وصونها والحفاظ عليها، وفي الوقت ذاته التمسك بمبدأ المواطنة بما تعنيه هذه الكلمة من أبعاد ومعانٍ منها : حرية الفرد والجماعة، والعمل الطوعي لارتقاء الوطن إلى ما فيه خير كل المواطنين، وأيضاً حفظ الحقوق والواجبات، خاصة ما له مساس بعلاقة المواطنين مع بعضهم بعضاً.
من هنا أتوجه إليكم في هذا الشهر المبارك بكلمة محبة، وأقول : أن ما يصدر عن بعض الأفراد في مجتمعاتنا من إساءة لكرامة الإنسان، وحرية الوطن، ليس له علاقة بتعاليم أدياننا، لا بل أشعر بأن شهر رمضان الفضيل والكريم بكل ما في هذه الكلمة من بُعدٍ روحي، يدعونا لأن نعمل معاً في سبيل عدم السماح لأحد مهما كان وزنه، أو حجمه، أو انتماؤه، أو رؤيته، للمساس بالمبادئ التي بنيناها معاً، بناءً على أرثنا المشترك، في سبيل أن يبقى هذا الوطن عالياً في كل الاتجاهات. نحن نرفض حماية آخر يأتي من بعيد ويتخيل أنه يصون ويحافظ ويحمي جماعة في نظرها هي من الأقليات، وننبذ كل فكر يتطاول على تاريخنا المشترك، ويتظاهر بأنه يحمي هذا أو ذاك، لأننا تعلّمنا بأننا جميعاً في حماية الله، وضمن أسوار هذا الوطن أخوة وأخوات، نعمل يداً بيد من أجل بناء الوطن في كل المجالات.
إذاً صوم رمضان في هذا الشهر الفضيل، واللقاءات بين الأخوة والأخوات، مسلمين ومسيحيين، والصلوات، والتراويح، والفكر الذي يتوجه إلى أخينا الإنسان في مجتمعاتنا، خاصة المحتاج والفقير واليتيم والمهّمش والضعيف، لا يمنع بأن نُنَمِّي روح المواطنة بل يدفعنا جميعاً على أن نضع الوطن في قائمة أولويات توجهّنا، وأن نبنيه بسواعدنا، وأن نحذر من أي فكر غريب، أو رؤية جديدة لا تسمح لنا بأن نعيش تحت سقف المواطنة.
أرجو الله أن يبارك هذا الوطن العزيز، ورئيسنا المحبوب الدكتور بشار الأسد، وكل العاملين معه، وأن يعيد المناسبات والأعياد الوطنية والدينية علينا جميعاً بالخير واليمن والبركة.
أشكر لكم إصغاءكم وليكن صيامكم مباركاً وكل رمضان وأنتم بخير.