كثيرة هي الكتب التي تحدثت عن قضية فلسطين، وكثيرون كتبوا حولها، لكن الكلمات التي دونها يراع المطران يوحنا إبراهيم لها طعم مختلف (يتلمسه قارئ كتابه حوار الآخر) لأسباب كثيرة، منها ما سيرد في هذه الكلمات، ومنها ما ستبقى لذاذاته للقارئ، وفي هذا العرض سيكتفى بالغيض دون الفيض، إذ لايظن أن مدينة حظيت باهتمام نيافته كما حظيت مدينة القدس، لأنها في رؤيته ليست قضية أحجار، بل قضية قيم وأفكار، ويقرر أن التاريخ المسيحي دون القدس المحررة ناقص، ويشكل احتلالها طعنة في صحة الإيمان. ويعد نفسه فلسطينياً، لأن القريب ليس فقط من تربطه رابطة النسب أو اللغة أو الوطن بل هو من يعاني أيضاً مع أصحاب المحن ويشاركهم مصائبهم، ويعد الصراع مع العدو صراع وجود لاصراع حدود، فالوطن في رؤيته هو الأغلى، والأرض هي الأقدس، والتراب هو الأعز، والمصير المشترك هو الأهم، ولذلك كانت القدس وفلسطين شيئاً واحداً إذ لافرق بين الفرع والأصل والجزء المختزل للكل، فهو عندما يذكر القدس يذكر فلسطين مهد النبوة وأرض الرسالات، منها انطلق الشعاع السماوي الحضاري ليعمر الأكوان، ومن مهدها انطلقت المسيحية لتصل إلى أقاصي المعمورة، فهي المهد والمنطلق والأساس الذي صدّر الديانة المسيحية إلى العالم كله . من هنا ينطلق في فهمه لمكانة المدينة المقدسة، وما مر عليها من أحداث تاريخية بفكره الهادئ المنظم، الذي يعود به إلى الجذور، لأن الأصل تتبعه الفروع، ويضع المقدمات ليصل منها إلى النتائج، بدقة العالم، وأناة رجل الدين، وصبر الباحث الذي اتخذ التاريخ، وبخاصة تاريخ المدن محوراً لدراساته العالية، ويرى نيافته قضية القدس بأبعادها الدينية كافة، ولاعجب وهو رجل الدين، والقومية كجزء من وطن كبير ينتمي إليه، والوطنية وهي الجزء الجنوبي من سورية. وينقد الفكرين الأوروبي والصهيوني اللذين يدّعيان بالحق التاريخي، ويبرهن أن وجودنا على أرضنا هو الأسبق والأطول، لأن شعبنا قطن هذا الجزء الغالي من الأرض قبل اليهود بمئات السنين. ويؤكد نيافته مستعرضاً التاريخ أن اليهود لم يعرفوا أرض فلسطين إلا بعد أن غزوها عنوة عندما أمر نبوخذ نصر بإحراق المدينة، وهدم الهيكل ليصل إلى 9 آب سنة 70 م عندما أعاد الرومان تدمير الهيكل، وتشريد الشعب اليهودي، ويرى أن القدس لم تحرر إلا عام 637 عندما دخلها العرب المسلمون في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وأعطى لأهلها العهدة العمرية التي أوردها نيافته في ثنايا الكتاب، ويجدر بنا التوقف قليلاً، لأن بعض الدراسات التاريخية والدينية المعاصرة تنفي وجود الهيكل أصلاً والخوض في المنحى عسير ليس مكانه الآن، ولم تصل الأنفاق الـ 25 التي حفرها الصهاينة ولا يزالون تحت الأقصى على أعماق واتجاهات مختلفة تكاد تقوض بناء المسجد إلى أي دال على ما يزعمون. بعد ذلك تحدث نيافته عن دخول جيش الفتح العربي إلى مدينة القدس وعن رفض الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب أن يدخلها بالقوة العسكرية، وعن إعطاء الأسقف صفرونيوس المفاتيح إليه شخصياً، ويرى أن المدينة سميت باسم القدس من يومها ذاك، ولم ينس أن يلمح إلى صيانة وحماية المسلمين لكل الآثار والممتلكات، ويذكر المؤرخون أن الخليفة عمر بكى عندما سمع بما أصاب سكانها المسيحيين من ضيق، ويؤكد نيافته مراراً أن المسلمين لم يهدموا الكنائس أو الأديار ولم يعتدوا عليها، بل يذكر أن بعض الحكام ساهم في بناء بعضها، لذلك يرى أنها جزء لايتجزأ من تاريخنا الحاضر كما كانت في الماضي، فهي مدينتنا جميعاً مسلمين ومسيحيين، عربية كانت وستبقى مدينة للإخاء والمحبة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ويرفض ويدحض مزاعم الحق التاريخي الذي يتمسك به الصهاينة، ويقوضه من أساسه جملة وتفصيلاً، لأن الصهاينة يزورون التاريخ ويجيرونه لصالحهم باستمرار، وصولاً إلى الزي الفلسطيني الذي يحاولون سرقته وتزويره . وينتقل بعدها إلى القدس إبان حملات الفرنجة، لأن بعض الكتاب الغربيين يعود بأسباب حروب الفرنجة إلى القدس، ويعتبرونها مدينة محتلة من أيام الخليفة عمر ويجب تحريرها من المسلمين، لأن طريق الحج المسيحي إليها أصبح صعباً، لهذا سوغوا احتلال الغرب لها وعندما هزموا فيها زرعوا الصهاينة بديلاً لهم، وأولئك سخروا كل شيء في سبيل تحقيق أطماعهم التوسعية معتمدين على الدعم الأوروبي بداية ونهاية، الدعم الذي يشجعهم على الاستيطان الذي كانوا ولايزالون ينفذونه على أرضنا، وسيادة المطران يوحنا يرفض هذا الرأي ويرى أن الأساس لحروب الإفرنج هو دك أسوار الحضارة في بلادنا، والسيطرة على الطاقات التي بدأت تظهر في بلادنا، وكشف الوجه البشع للفرنجة، وما قاموا به من عذاب للنصارى، ومن قتل لهم وتدمير لممتلكاتهم نذكر منها : أن الفرنجة سلبوا الغنائم وأعملوا السيف في الأهالي والعسكر، وبطشوا بـ 30 ألفاً وقتلوا في هيكل سليمان نيفاً وسبعين ألفاً وأخذوا من مسجد الصخرة 40 قنديلاً فضياً و150 قنديلاً ذهبياً، ونهبوا كل ذهب كنيسة القيامة، ومنها صليب ذهبي كبير، حطموه ووزعوا قطعه على جنودهم، فأين حماية طريق الحج من السلب والنهب، فالفرنجة سلبوا ونهبوا ونقلوا معهم إلى أوروبا الكتب والمخطوطات الهامة، التي يشك سيادته في أنها كانت وراء عصر النهضة في أوروبا، وكانت محرضاً للأوروبيين على اكتشاف أمريكا، وأجزاء أخرى من المعمورة، في سابقة تاريخية له لم يسبق إليها فيما نعلم، وهذه دالة على أن أرضنا المقدسة كانت موطناً لكثير من رجال الفكر (الإسلامي والمسيحي) وقد تفضل نيافته بذكر بعضهم، الذين أمدوا الحضارة الإنسانية بفيض من علومهم، بمحرض من الفكر الديني الخلاق الذي يتحلى بمثله نيافته، فنحن أبناء الشرق نقلنا إلى العالم وعلمناه التقاليد الشريفة والعادات الحسنة والفكر النير، كما نقلنا الدين من بلادنا مهد الديانات إلى العالم كله، فالقدس مدينة إشعاع ديني وحضاري. ويتمتع نيافته بحس إنساني عال لايعترف من خلاله بتفوق حضارة على أخرى، ولا بأفضلية دين على آخر، ولايستمد أقواله من عنصرية، بل من علم مقارن، يقارن فيه بين دخول الفرنجة إلى القدس وفتح عمر لها، وبيّن بجلاء ووضوح رؤية المسيحيين والمسلمين الشرقية، وهي قائمة على المحبة والإخاء، ورؤية الصهاينة القائمة على العنصرية الدينية والعرقية، ففي زعمهم أن أولاد سيدنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أبناء الله، أما الآخرون فهم أبناء الناس، ونظرية محاربة الآخرين من أجل الدين فتحت باباً واسعاً للجدل بين رجال الدين.
ويسأل سيادته بعد إظهار الوجه الحقيقي للغزو الأوروبي: أين كانت تعاليم السيد المسيح، وكيف تؤيد أمريكا وأوروبا إسرائيل؟، ويؤكد نيافته أننا لانريد حماية أحد لنا من خارج المنطقة، لأي كان في بلادنا، وأغفل سيادته الحديث عن القدس وفلسطين في ظل الاحتلال الاستعماري الحديث (فرنسا وبريطانيا) ربما لأن شيئاً جديداً هاماً لم يحصل، فالإخاء والمحبة والحماية كانت موجودة أصلاً، أو لأن فصول الكتاب ليست متسلسلة تاريخياً، أو لاعتبارات أخرى لاندري بها . وتحدث نيافته عن صراعنا الحضاري مع الصهاينة، ويعد أن كل من قطن أرضنا من العرب مد العقلية العربية وساهم في ترسيخ كم من الصفات العربية الثابتة المعروفة باسمنا، وكشف الدفائن وهو يقرأ تاريخ القدس، واعتبرها عقلية دينامية متوارثة ستدفع بأمتنا نحو التقدم، ومن لا تاريخ له يرتبط به لاوجود له، وأمة تستحي أن تقرأ تاريخها، أمة لاتستحق الحياة، لذلك حاور التاريخ بأنواعه السياسي والديني والأنثروبولوجي ووصل من خلاله إلى أن الوجود الصهيوني على أرضنا طارئ لا أساس له، وهو بنيان هش سيتقوض عاجلاً أم آجلاً، ورأى أن إنسان القدس مهان مسلماً كان أو مسيحياً، وهو الإنسان الذي بنى مثل الحرية في العالم. وناقش الكتاب قضايا أخرى مهمة: كقضية الاستيطان، وقضية المواطنة والنزوح وحق العودة والمستقبل، وكل واحدة بحاجة إلى قول مفصل، ولايفصل نيافته بين الصهاينة والمستعمرين الآخرين، رغم ادعائهم الإيمان، وأنهم أصحاب كتب مقدسة، ويقول متسائلاً : هل سمعتم أن مؤمناً حقيقياً يقتل يسرق، يخون الوطن، وبذلك يساهم مساهمة جادة في كشف ختل الصهاينة والمستعمرين، ويبني استنتاجاته على قواعد أخلاقية ودينية يفتخر بها ولاينفصل عنها، ويستمدها من أصولها التاريخية لمنطقتنا، فقد جاء الطغاة والمستعمرون لاليحتلوا بلادنا ويسيطروا على خيراتها فقط، بل ليدكوا أسس الحضارة التي بنيناها، وليخلقوا حالة من الفوضى، فيدخل الإنسان العربي في حيرة ويستسلم، ثم يبقى المستعمر جاثماً على صدورنا. ونيافته يتعالى على النظرة السطحية، وينظر إلى الأبعد والأعمق، ويربط الحضارة بالدين والسياسة والحالة الاجتماعية، وهو بذلك رجل دين وسياسي معاصر يتمتع بخلفية حضارية، يعود بها دائماً إلى الأصول، ويرى أن صراعنا مع الصهاينة صراع وجود لاصراع حدود، كما تقول السياسات المعاصرة . ثم ينتقل من الصراع الحضاري إلى صراع الكرامة، وصراع الروح، وصراع الحياة التي يسعى المؤمنون من خلالها إلى جعل التقدم المادي والتقني يتماشى مع التقدم الأخلاقي والروحي على عكس ما تقوم به الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني، الذي يقوم بالتطهير العرقي المستمر، مستعملاً أعتى أنواع الأسلحة وأكثرها فتكاً معتمداً على التقدم التقني الذي يمده به الغرب. إن الشهادة من أجل القدس ضرورة يباركها ويؤيدها، بل يدعو إليها لأنها شهادة من أجل الحق ومن أجل الإنسان المظلوم المستلب المنتهك، والشهيد في رؤية نيافته هو من يقدم شهادة الدم، ومن يضحي بنفسه ليحيا الآخرون، ويقر بالدفاع عن الوطن بأشكاله كافة، وهذا موقف له مشرف، فهو لايدعو إلى استكانة أو اتكال أو غيبية كغيره. بل يدعو إلى النضال والثورة، والوقوف معاً مسلمين ومسيحيين في خندق واحد من شعور ديني حقيقي وقومي كامل، ووطني تام؛ لأنه يرى المصير مشتركاً، ويعرف تماماً أن الأوطان لاتحرر بالخطب والمؤتمرات بل بالدماء، وربط السلام بالقوة، ويعد نفسه فلسطينياً من هذه الناحية، ويتكلم باسم فلسطين وهذا موقف نثمنه عالياً، وهو يعلن أن المسيحيين سيقفون جنباً إلى جنب مع إخوتهم الفلسطينيين، لأن الصهاينة سيحاولون القضاء على أصوات أجراس الكنائس، وأصوات الأذان في المساجد، ويرى سيادته أن الشهادة أبلغ رسالة يقدمها أصحاب الحق إلى العالم . وفي الكتاب مواقف أخرى مهمة لنيافته، سنمر عليها سريعاً منها : مباركته كل جهد يبذل من أجل القدس وفلسطين ويرى هنا في سابقة أيضاً أن أحد أسباب وقوف الغرب ضد إيران كان بسبب دعمها اللامحدود للقضية الفلسطينية ولقضية القدس وهي قضية ورأي على جانب كبير من الأهمية . ومنها دعم سيادته للانتفاضات المستمرة في فلسطين ويعاهد الله على العمل من أجل تحرير القدس، وعودتها إلى سابق عهدها أيام عمر بن الخطاب، ويرى أنها سائرة في طريق التحرير . والتأكيد أن إسرائيل جرثومة فساد زرعتها الدول المستعمرة في جسدنا يدعو للقضاء عليها، ويؤكد أنها ستزول عاجلاً أم آجلاً، لأنها جناية وخيانة، ويرفض بشدة ارتباط بعض الأنظمة بمعاهدات ويفند حججهم، معتمداً على آيات من القرآن وأخرى من الإنجيل، ويظن أن أية معاهدة سلام مع الكيان العنصري ستكون لغماً يفجر لايحرر، لأنها ستكبل الوطن بدلاً من أن تحرره . ويذكر سيادته أن المسيحيين سيقفون جنباً إلى جنب في خندق واحد مع إخوتهم المسلمين وسيقاتلون بشرف العدو المشترك، لأن قضية القدس واحدة تهمنا جميعاً، لذلك أعلن أنه ضمناً مع الكفاح المسلح ومع كل عمل يؤدي إلى تحرير القدس وبالتالي فلسطين . ويؤكد أن الأمم المتحدة في تعاملها مع قضيتنا تكيل بمكيالين، فهي مع القرارات الداعمة وتقف في صفهم، بينما لاتعير أي التفات إلى القضايا المتعلقة بحقوقنا. ويبارك مواقف سيادته هذه أنه لم يذكر الصهاينة مرة في كتابه إلا ونعتهم بالمعتدين، وأنه لم يمر على مناسبة دينية أو قومية أو وطنية إلا وذكر فيها القدس أو فلسطين كجزء أصيل من فكره، فهي في مركز تفكيره بشكل دائم، وهو في ذلك يتساوى مع المطارنة المسيحيين الذين وقفوا مع قضيتنا، منهم المطران هيلاريون كبوشي ابن هذه المدينة الفاضلة، والمطران حنا عطا الله، والأب إلياس زحلاوي وغيرهم كثيرون، ممن لايخشون في قول الحق لومة لائم . ختاماً أدعو نيافته إلى كتابة كتاب عن القدس، يتناولها فيه بأبعادها كافة، وهو الخبير المختص في تاريخ المدن لما له من فائدة كبيرة، ولما يتمتع به نيافته من وعي معرفي وديني وتاريخي، يكون وثيقة تدحض فكر الآخر المغلوط، وأقصد أولئك الذين يدعمون الصهاينة ويؤيدونهم دون وعي، ودون قيد أو شرط، كما أطلب من نيافته أن يعمل على ترجمة بعض فصول الكتاب إلى لغة أخرى، لما فيه من مواقف قومية أو وطنية نعتز بها نحن هنا في سورية التي تقف ويقف رجالها مواقف مشرفة من قضايانا المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين.