أيها الأحبة،
يقول الرب يسوع في إنجيله المقدس: “أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ” (يوحنا 10: 11).
في يوم قاتم من أيام الشرق وقبل أحد عشر عاماً، تمكنت قوى الشر والظلام من تغييب الراعي الصالح، صوتِ الحق والحقيقة، الصارخ في برية هذا العالم، سيدنا وراعينا الجليل ومطراننا مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم. ومعه سيادة المطران بولس يازجي. غيبته جسدياً، وقطعت التواصل معه ومنعت نفوذ أية معلومة عنه. وفي كل هذا نجحت وتفوقت. لكنها لم ولن تستطيع تغييبه روحياً، لأن أثر الإنسان لا ينحصر بجسده المادي وحضوره اليومي، وإنما يتعداه ليصل إلى مساحات روحية بعيدة وعميقة لا يمكن أسرها ولا تقييدها.
نعم يا أحبة، لقد أرادوا من تغييب سيدنا يوحنا اسكات صوت المصالحة والاعتدال، وتزييف رسالة المحبة والأخوة، وزرع الخوف في نفوس كل من ينبري للتصدي لهذه المهمة العظيمة. وكم كنا بحاجة لمثل هذه الأصوات سابقاً، وما أحوجنا إليها اليوم، في هذا الشرق المضطرب والمثقل بالنزاعات والعداوات، وفي سورية خاصة، التي مزقوها اجتماعياً وجغرافياً واقتصادياً، ولم تتمكن بعد من لملمة جراحاتها الكثيرة والعميقة.
لذلك فإن قضية المطرانين ليست قضية شخصين خُطفا وغُيبا عن الساحة العامة، وإنما هي شاهد لواقع مرير نعيشه اليوم حيث لا يَغيب فقط الإنسان بشخصه، وإنما يُغيَّب بفكره ومواهبه وإمكاناته. هي قضية حق الإنسان في الحياة الكريمة وصون كرامته الإنسانية. هي قضية رسالة الإنسان المؤمن في العالم الذي يجاهد ويناضل لتثبيت القيم والأخلاق الإنسانية السامية. وباختصار هي قضية الشرق الذي يُخطف يومياً بإيمانه وأخلاقه وانسجامه.
أما في حلب، فإننا نفتقد لراعينا الجليل ونبكي غيابه الطويل، غير يائسين من رحمة الرب وافتقاده له في أسره. ونشعر بأنه موجود بيننا، فأعماله وأقواله وأفكاره ماثلة أمامنا في كل حين ومكان. ولا ريب في أننا سعينا بكل ما أوتينا من قوة إيمانية للثبات والنجاة أمام العاصفة الهوجاء التي ألمت بنا منذ يوم الخطف. فلولا وجود أناس محبين لكنيستهم السريانية وأمينين عليها، ونشكر الله من أجلهم، لكان تحقق كلام الإنجيل “أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ” (متى 26: 31).
ومع أن الهجرة الكبيرة لأبناء الأبرشية قد قصمت ظهرنا وأفقدتنا الكثير من الخبرات والطاقات البشرية التي خدمت كنيستها خلال وجود سيدنا يوحنا بيننا، إلا أن ظهور خامات شبابية جديدة على ساحة الخدمة الكنسية، مع من تبقى من الخبرات المميزة القديمة، أنعشت فينا روح الأمل من جديد، فبدأنا معها سلسلة من الأعمال الرائدة، أكملت ما كان قد بدأه سيدنا يوحنا من إنجازات على أكثر من صعيد، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، الحصول على ترخيص الاعدادي لمدرسة بني تغلب الأولى وترخيص الثانوي لمدرسة بني تغلب الثانية، وترخيص دار شفاء مار جرجس، وإعادة اصلاح الأوقاف الكنسية في مشروع بيت حسدا، التي تضررت بشكل كبير خلال سنوات الحرب، وإصلاح وافتتاح دير السريان في بلدة كسب، والبدء ببناء المركز الروحي والاجتماعي في مدينة اللاذقية، وأخيراً ترميم وإصلاح كاتدرائية مار أفرام بمناسبة السنة اليوبيل لتشييدها، وكنيسة مار جرجس بمناسبة السنة اليوبيل للهجرة الرهاوية إلى حلب.
وهذا كله على التوازي مع استمرار إغاثة أهالينا في الأبرشية بكل الوسائل المتاحة، بعد أن ضاقت الأيام بهم وحل ما يشبه الكارثة في حياتهم. فكانت الكنيسة إلى جانبهم في جميع احتياجاتهم، وسعت بكل جهدها للتواصل مع جهات داخلية وخارجية لتأمين ما أمكن من دعم وتثبيت البقية الباقية في أرضهم.
هكذا فهمنا خدمتنا لكنيستنا وهكذا جسدنا محبتنا لسيدنا يوحنا في سنوات غيابه الطويلة والمريرة. سَعيُنا للحفاظ على الأمانة، إلى حين تحريره من أسره، هو الذي كان يقودنا في كل أعمالنا. ويقيننا أننا تمكنا من إنجاز الكثير مما كان يحلم به ولم يستطع بسبب تغييبه، وأمامنا بعد الكثير لننجزه ونحن بانتظاره “مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا” (2 كورنثوس 4: 8-10).
فرَّحنا الرب الإله بيوم لقائه كما يفرحنا يومياً بمجد قيامته.
محبتنا وسلامنا لكل أبناء الأبرشية في حلب والعالم وبشكل خاص لعائلة سيدنا يوحنا الكريمة وأقربائه بالجسد، وليبارك الرب مسعانا جميعاً في كل حين، بشفاعة أمه القديسة مريم العذراء وجميع القديسين وبصلوات قداسة سيدنا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، لربنا كل المجد آمين.