(1)
طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون
في ليلة الميلاد يلقي الإنجيليون الأربعة الأضواء على هذا الحدث التاريخي الفريد، بأسلوب متميز بالبساطة والروحانية، نأخذ مثلاً ما يقوله متى الرسول في بدء إنجيله المقدس : كتاب ميلادِ يسوع المسيح ابنِ داود ابنِ إبراهيم، وبعد أن يذكر نسب السيد المسيح بحسب الجسد من إبراهيم إلى يوسف رجل مريم، يورد ببساطة قولاً آخر فيقول : أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. ولا يختلف عنه كثيراً لوقا البشير الذي يكتب في إنجيله المقدس عن ميلاد يسوع المسيح : وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَت ابْنَهَا الْبِكْرَ 1.
الذي غيَّر من أسلوب البساطة والروحانية، هو يوحنا الرائي، الإنجيلي الذي حلّق في أجواء لاهوتية، فبعد أن افتتح إنجيله بالآية الشهيرة : فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ. وَﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ 2. نسمع يوحنا صاحب الإنجيل ذاته، وهو يصف ميلاد السيد المسيح بعبارة لاهوتية عميقة جداً، فكتب : وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً، وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً 3. ولكن الميلاد ليس كأي حدث طبيعي آخر، يستطيع كل من يقرأ ما كتبه الإنجيليون الأربعة بفهمه بهذه البساطة.
(2)
فالأحداث الإنجيلية التي سبقت الميلاد، ورافقته، وجاءت بعده، تعطي مدلولاً حسياً بأن ولادة هذا الذي كتب عنه الإنجيليون الأربعة ليست كولادة آخر. فالإنجيلي متى يتحدث عن مريم العذراء، وهي مخطوبة ليوسف: قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ،فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً 4. ويوسف النجَّار ذاته عدل عن قراره، بعد أن سمع الملاك يخاطبه في الحلم قائلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ لاَ تَخَفْ أَنْ تـَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهـَا، هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ 5.
(3)
ويحدثنا البشير لوقا قبل أن تكون ولادة يسوع في مغارة بيت لحم، عن زكريا الكاهن وامرأته الطاعنة في السن إليصابات، وعن ولادة يوحنا الذي عُرف بالكاروز، والمعمدان، بعد أن رأى أبوه الكاهن زكريا الملاك. ثم ينقلنا إلى مدينة من الجليل اسمها الناصرة، ويُصوِّر لنا ظهور جبرائيل الملاك في الهيكل، حيث كانت العذراء المخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، ويصف لنا حالة اللقاء والحوار الذي جرى بينها وبين الملاك.
وقبل الولادة، أيضاً ينقلنا لوقا البشير إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، حيث قامت مريم بزيارة لنسيبتها إليصابات، ويحفظ لنا في الذاكرة أنشودة العذراء مريم : تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ 6 . التي رددتها أمام إليصابات وهي تشير إلى مريم العذراء قائلة : فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرب 7، وأخيراً يصف لنا سعادة إليصابات وزكريا بولادة بكرهما يوحنا. كل ذلك قبل أن يدخل متى ولوقا بعين الروح إلى مغارة بيت لحم، ويصفا الولادة التي تمّت بمنتهى البساطة، والذي يهمُّنا في هذا المساء : هو شهادة الرعاة المتبدِّين في تلك الكورة القريبة من بيت لحم، وكانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وكيف ظهر الملاك في السماء، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً : فقال لهم الملاك لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهَذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ، تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ. وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ ﭐلْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَالرجاء الصالح لبني البشر 8.
(4)
لقد لخّصت ترنيمة الملائكة رسالة يسوع المسيح بمجيئه إلى الأرض، فالعالم بعد التجسد كان بحاجة ماسة إلى أمرين : الأول : هو السلام الذي بقي ناقصاً في رسالة كل الذين سبقوا مجيء السيد المسيح، وهو يشير إلى حالة الحروب وأخبار حروب، وكيف تقوم أمةٌ على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة، وزلازل في أماكن، وهذه كلها مبتدأ الأوجاع.
إنَّ ما ذكره السيد المسيح قبل أن يذهب إلى الجلجلة، نراه يتجسد في مناطق كثيرة من العالم، وأنَّه لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين.
إنَّها صورة قاتمة يذكرها الإنجيل المقدس، ويصور فيها المآسي والويلات التي سيقاسى منها الإنسان، فالَّذِي عَلَى السَّطْحِ لاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً، وﭐلَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ 9. حتى أنَّ : الشَّمْسَ تظلم، وَالْقَمَرَ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومَ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ 10.
(5)
بكلمةٍ واحدةٍ نستطيع أن نصف هذه الحالة المرعبة التي تحدث عنّها السيد المسيح أثناء تجواله بين الناس. ولكن كل هذا لم يمنعه، من أن يشير إلى السعادة التي ستعطى لبعض الناس. ونقرأ في كلماته وهو على رأس الجبل، يلقي الموعظة الشهيرة المعروفة بالتطويبات، كيف أنّه يعيد إلى الأذهان ترنيمة الملائكة للرعاة. فالطوبى أعطيت : للمساكين بالروح، والحزانى، والودعاء، والجياع والعطاش إلى البر، والرحماء، ولأنقياء القلب، والمطرودين من أجل البر، ولكن أعطيت أيضاً لصانعي السلام، الحاجة الأولى الماسة التي أشار إليها السيد المسيح في تطويباته. وكان إشعيا النبي قبل الميلاد بقرون قد أكّد أنَّ المسيح هو رئيس السلام، وتنبأ قائلاً : لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ، وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ 11. والسيد المسيح له المجد علّم رسله الأطهار أنَّه عندما يدخلون البيت، ويسلِّمون على من فيه. فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً، فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ 12.
(6)
هذا واضحٌ جداً في أنَّ رسالة السيد المسيح الأساسية كانت تأسيس سلام دائم بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان ونفسه، ولكن صناعة السلام ليست بالأمر السهل. إنَّها مهمة صعبة جداً، وتحتاج إلى كفاءة عالية في عالم المحبة، والعطاء، والخير، والصبر، والبذل. صناعة السلام تستدعي قوةً كبيرةً، وطاقةً هائلةً من التقرب إلى الله تعالى. صناعة السلام تعني أن يكون طلابه فاعلي خير، يطفئون الحرائق والنيران بالعمل الصالح، ويبعدون الهلع والخوف بالمحبة، ويحملون رسالة المسيح في كل المجتمعات مجّاناً. صناعة السلام تعني أنَّ الذين يتبعون المسيح، ويعرفون تعاليمه، يجب عليهم أن يتحملوا كل شيء من أجل أن يُبعِدوا شرور الحرب، ونتائجه المخيبة.
إذاً فما جاء على لسان الملائكة إلى الرعاة كان كلاماً واقعياً، أرسلته السماء إلى الأرض.
(7)
تعالوا نتأمّل ما يحدث اليوم في العالم، فنحن صباح كل يوم ننهض من فراشنا لنسمع أنباء الحروب، وقصص المعارك، ونقف بدهشة أمام روح الخصام والعداوة التي تولّدها المصالح بين الشعوب والأفراد، وندرك أنَّ صناعة الحروب هي الصناعة الأولى الرائجة لدي الدول التي تدّعي أنَّها أكثر حضارة من دولٍ أخرى. فالدول العظمى هي التي تشرف على مصانع الأسلحة بكل أنواعها، وتضع الخطط الجهنمية لاحتلالاتٍ متنوعةٍ: منها لدولٍ فيها الخيرات والطاقات، ومنها لأفكار الشعوب التي تريد أن تدفعها إلى الشر، فتقتل روح الهمة، والعطاء، وتزرع كل معاني الحقد، والضغينة، والكراهية بين الجماعات والأفراد.
(8)
عندما أعطى السيد المسيح الطوبى لصانعي السلام، كان يشير إلى أنّ رسالته الخلاصية التي ستنتهي على الصليب، هي من أجل أن يعالج الإنسان ويلاته، ومصائبه بالخيرات والعطاءات النابعة من تعليم الله.
من السهل جداً أن ترمي فتنةً في المجتمع، ولكن من الصعب جداً أيضاً أن تجعل الاثنين واحداً، إلى هذا كان يشير بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس بقوله : أَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ 13. ويختم قوله : َفجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ 14.
(9)
أنَّ ما حصل لآدم الأول في الجنة عندما أخطأ، في نفس اللحظة فقد السلام مع الله، وعندما قتل قايين أخاه هابيل، فقد الإنسان السلام مع أخيه الإنسان. ولهذا بعد أن نهض السيد المسيح من بين الأموات، قال للرسل في العلّية حيث كانوا مجتمعين وخائفين عشية يوم القيامة : سلاَمٌ لَكُمْ. لقد صنع سلاماً على الصليب أولاً، وأعطى السلام لتلاميذه بعد القيامة ثانياً. ولهذا نرى أنَّ الرسل يتخلون عن كل معاني الخوف والهلع، ويدركون أنَّ التمتع بالسلام مع الله، يعني العيش في سلام مع الناس.
(10)
فنحن في ميلاد الرب يسوع مدعوون لكي نفهم ما معنى السلام من خلال ترنيمة الملائكة للرعاة. ولماذا يُركِّز السيد المسيح في واحدة من التطويبات على صانعي السلام ؟
فما أجمل أن يسود السلام وطننا، وأن يعمَّ السلام مجتمعنا، وأن ينتشر السلام في بيوتنا، وأن يكون السلام عنواناً لعلاقاتنا مع بعضنا بعضاً، وأن نتعلم من بولس الرسول معنى أن نعيش بالسلام : أَخِيراً أَيُّهَا الإِخْوَةُ افْرَحُوا. اِكمَلُوا. تَعَزَّوْا. اِهْتَمُّوا اهْتِمَاماً وَاحِداً. عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلَهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ 15. و : اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبّ 16. فإذا قال السيد المسيح : طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ 17. يقول محبو السلام : ويّلٌ لمحطمي السلام، ويّلٌ لصانعي الشقاقات والخصام، ويّلٌ لصانعي الفتنة وزارعي الضغينة بين الناس، كل أولئك أبناء إبليس يدعون.
(11)
بما أنّنا نعيش في وطن واحد مسيحيين ومسلمين، ونعتبر أنَّ هُوِّية هذا الوطن تتجسد في عمل المواطن، لا بد أن نشير إلى أنّ َالإسلام أيضاً له تصور في السلام الذي يريده لكل الناس. لا بل يُعلّمنا الفقهاء المسلمون، أنَّ كلمة إسلام مشتقة من نفس الأصل المشتق منه لفظ سلام. فالإنسان في نظر الإسلام بدل من أن يكون عدوانياً ومدمِّراً، عليه أن يكون مسالماً وبنّاءً بدعمه للسلام.
هذا الكلام يجرّنا إلى ما تنشره وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة كل يوم، عن اختراقات غير مقبولة دينياً، بل مرفوضة رفضاً قاطعاً في قيمنا، وتقاليدنا، وعاداتنا، وأخلاقنا.
ولهذا في عيد ميلاد السيد المسيح نرى أنَّ حاضرنا تشغله قضية السلام في كل مكان، وهو في نظر الكثيرين من الحكماء، والعقلاء، والمؤمنين بالله تعالى، الأمر الهام والضروري لبناء صرح الحضارة في العالم. وعكس ذلك نرى أنَّ أفعال بعض الناس تسير في اتجاه مضاد للسلام، لأن فكر أولئك لا يتماشى والتعاليم الدينية، التي يجب أن تكون ضمن منطق المحبة التي توصي بها تعاليم الديانات التوحيدية.
(12)
عيوننا في هذه الليلة تتجه نحو العراق، أرض الحضارة والتّاريخ، بلاد ما بين النهرين، هذا البلد الشقيق الذي عرف مجزرة مرعبة قبل ختام سنتنا /2010/. فما وقع في كنيسة سيدة النجاة في بغداد لم يكن عادياً. إنَّ المجرمين، والقتلة، دخلوا إلى بيت الله، وقتلوا من قتلوا، ودمّروا ما دمّروا، وطبعوا بصمة مسيئة جداً إلى عالمنا، لأنهم نقلوا صورة مشوَّهة إلى الإعلام في كل مكان عن علاقتنا مع بعضنا بعضاً. لم يكن الإسلام وراء هذا العمل الجنوني. فالقرآن الكريم يُشير إلى أنَّ النصارى هم أهل الكتاب، وهم أيضاً يعبدون الله مثل المسلمين، ولهذا يوصي : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا 18.
(13)
ونَهجُ الخلفاء الراشدين كان بحسب ما أوصى به القرآن الكريم : أنَّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً 19. فتعددية الديانات، و تنوع المذاهب هي شرعة، ومنهاج، في نظر الإسلام. لهذا نرى كيف أن الخليفة الراشدي عمر بن الخطّاب أعطى الأمان لأهل الكتاب من النصارى. والعهدة العمرية الشهيرة أعطت الأمان لأنفسهم وأموالهم، لكنائسهم وصلبانهم… أن لا تُسكَن ولا تُهدَم كنائسهم، ولا يُنتقص منها، ولا من حيِّزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون علي دينهم. فإذا كان هذا منطق الإسلام، فكيف يحلل المتهورون قتل أهل الكتاب، ويدنسون بيوت الله، وهم يدركون : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ 20. لقد طعنوا مفهوم التقوى، عندما دخلوا إلى بيت الله، وقاموا بعمل شنيع، فقتلوا كل من كان يمارس التقوى من خلال الصلاة.
(14)
رغم كل ذلك نحن نؤمن بالله الواحد الأحد، ولا يمكن للمؤمن أن يعيش بدون رجاء. ففي بحر هذه السنة جاء الرجاء في حدثٍ مسيحيٍ هام له علاقة بالشرق، ألقى الضوء على الروابط التاريخية، والروحية، بين المسلمين والمسيحيين. هذا الحدث كان سينودس الأساقفة ـ الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط. الذي عقد في روما في بحر شهر تشرين الأول من هذا العام. وكان جميع بطاركة، ومطارنة، وأساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط حاضرين، ومعهم ممثلو الكنائس الأرثوذكسية، و بني شعار هذا السينودس شركة وشهادة على آية وردت في سفر أعمال الرسل: وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ.21.
(15)
وجاءت توصيات هذا السينودس تعبيراً عن هذا الرجاء منها، توصية من أجل السلام تقول: تلتزم كنائسُنا الصلاة، والعمل لأجل العدالة والسلام في الشرق الأوسط، وتدعوا إلى تنقية الذاكرة، مفضّلة لغة السلام والرجاء على لغة الخوف والعنف. وهي تطالب السلطات المدنية المسؤولة بتطبيق توصيات الأمم المتحدة الخاصّة بالمنطقة، ولا سيّما تلك المتعلقة بعودة اللاجئين، والوضع الخاص بمدينة القدس والأراضي المقدسة. والتوصية الخاصة في الإسلام أعلنت أنّه: لا يمكن للحوار الديني والثقافي أن يقتصر على خيار عابر، لأنه في الواقع حاجة حياتية، يرتبط بها مستقبلنا ارتباطاً كبيراً. هذه التوصية تريد أن تؤكد على الحضور المسيحي الدائم في المنطقة، ولهذا نقرأ فيها أيضاً: يتشارك المسلمون والمسيحيون معا في الشرق الأوسط في الحياة والمصير. ومعاً يبنون المجتمع. لذلك من المهم تعزيز مفهوم المواطنة، وكرامة الشخص البشري، والمساواة في الحقوق والواجبات، والحرية الدينية، التي تتضمن حرّية العبادة وحرّية الضمير. هذا الأمر يلزم المسيحيين المشرقيين أن يثابروا على حوار الحياة مع المسلمين، ويجب أن تكون النظرة بينهم نظرة تقدير ومحبة، رافضين كل أحكام سلبية ضدّهم. وهم مدعوون إلى أن يكتشفوا معاً القيم الدينية عند بعضهم بعضاً، وأن تكون من خلالهم مناهضة مشتركة لكل أنواع الأصولية والعنف باسم الدين.
(16)
إذاً علامات الرجاء حاضرة في حياة المؤمنين، وعليهم أن يدركوا بأن الذي يجمع بين المسلمين والمسيحيين هو الإيمان بالله الواحد الأحد، والعمل بالمعروف، والنهي عن المنكر. ولا غرو فمنذ ظهور الإسلام في الشرق الأوسط في القرن السابع، والمسيحيون والمسلمون يعيشون معاً، ويتعاونون في بناء الحضارة المشتركة. وإذا حصل اليوم بعض الخلل في العلاقات بينهم، عليهم أن يزيلوا كل سوء فهم وخلل بالحوار.
(17)
إن ختام الرسالة إلى الأخوة المسلمين جاء فيها : نقول لمواطنينا المسلمين: إنّنا أخوة، والله يريدنا أن نحيا معاً، متحدين في الإيمان بالله الواحد، ووصية محبة الله، ومحبة القريب. معاً سنعمل على بناء مجتمعات مدنية مبنية على المواطنة، والحرية الدينية، وحرية المعتقد. معاً سنتعاون لتعزيز العدل، والسلام، وحقوق الإنسان، وقيم الحياة، والعائلة. إن مسؤوليتنا مشتركة في بناء أوطاننا، نريد أن نقدّم للشرق والغرب أنموذجاً للعيش المشترك بين أديان متعددة، وللتعاون البنّاء بين حضارات متنوعة، لخير أوطاننا ولخير البشرية جمعاء.
وكل عام وأنتم بخير
المراجع :
1- لوقا 2 : 7 2- يوحنا 1 : 1 ـ 5 3- يوحنا 1 : 14 4- متى 1: 18 _ 19
5- متى 1: 20 6- لوقا 1: 47 7- لوقا 1: 45 8- لوقا 2: 10 _ 14
9- متى 24: 17 _ 18 10- متى 24: 29 11- اشعيا 9: 6 12- متى 10: 13
13- أفسس 2: 14 _16 14- أفسس 2: 17 15- 2 كورنثوس 13: 11
16- العبرانيين 12: 14 17- متى 5: 9 18- سورة الحجرات 49: 13
19- سورة المائدة 49: 5 20- سورة الحجرات 49: 13 21- سورة الحجرات 49: 13
22- أعمال الرسل 4: 32