عظة عيد القيامة لعام /2010/ يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ

(1)

بولس الرسول وحدث القيامة

لا نجد وصفاً دقيقاً لحدث قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات وأبعادها الروحية، كما نقرأ ذلك في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس. ففي الإصحاح الخامس عشر من هذه الرسالة يُعلن رسول الأمم أنه سلّمهم في الأول ما قبله هو، أي أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ (1 كو 15 : 2).

ونحن نعلم أن بولس، الرسول الثالث عشر، لم يعرف السيد المسيح ولم يمشِ، أو يأكل معه، أو يسمعه كما كانت الحالة مع بقية الرسل. وتمت المعرفة فقط عندما حمل رسائل من رئيس الكهنة، إلى دمشق ليسوق المسيحيين الأوائل موثقين إلى أورشليم، إذ حدث أنه اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء (أعمال 9 : 1 – 3)، إذاً بولس الرسول هو الآن وجهاً لوجه مع الناهض من بين الأموات، في الوقت الذي  يضطهد تلاميذه، ويعذبهم بشتى الأنواع، ها هو يسمع صوته قائلاً له : شاول شاول لماذا تضطهدني ؟ وعندما تجرأ شاول وسأل، من أنت يا سيد ؟ قال صاحب الصوت : أنا يسوع المسيح الذي أنت تضطهده، لهذا نراه فخوراً جداً بهذه الرؤية. وعندما عدّد ظهورات السيد المسيح بعد القيامة المظفرة ذكر ظهوره لصفا أي بطرس، ثم للأثني عشر، وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم كان باقياً إلى أيامه، ولكن بعضهم قد رقدوا، ثم ليعقوب، ثم للرسل أجمعين، وآخر الكل كأنه للسِقطِ ظهر لي أنا، يقول بولس رسول الأمم، ويعلل ذلك بقوله : لأني أصغر الكل أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله. هذا اعتراف صارخ من رسول فاق جميع الرسل بالتعب والخدمة، بعد أن آمن بالناهض من بين الأموات حتى أنه   يقول : أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ (1 كو 15 : 8 – 10).

ولهذا فالرسول بولس يشدد في رسالته، ويؤكد على حدث القيامة، وأنه واحد من الشهود الكبار لقيامة الرب يسوع المسيح، وكان من دواعي سروره أن يحاجج أهل كورنثوس، خاصةً من كان منهم يقول ليس قيامة أموات. ولا نجد رسولاً آخر يقاوم بقوة ناكري قيامة الأموات مثل بولس المعلم، فهو يبني فكره في موضوع القيامة على أن المسيح يُكرز به، أنه قام من بين الأموات، وبموضوعية يحاجج الرسول بولس ناكري القيامة، بقوله : إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام. هذا افتراض ولكنه مرفوض، لأن الافتراض الآخر الذي يُعلن عنه بولس الرسول هو إن لم يكن المسيح قد قام، أي لو لم يكن حدث القيامة حقيقياً، فكل الأحداث التي تأتي بعد حدث القيامة إما أن تكون درباً من دروب الخيال، أو من الأحداث المزيفة، لا بل بحسب مفهوم بولس الرسول تكون الكرازة كلُّها باطلة، ويكون الإيمان كلُّه باطلاً، فعلامَ نبني شهادة الشهود، إنهم إذاً شهود زور لله، لأنهم يقولون ما لا يفعلون.

(2)

نرجو قيامة الموتى

في عيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، نعتبر أنفسنا شهود حق، أولاً : لأننا لا ننكر قيامة الأموات، ففي كل حياتنا نرجو قيامة الموتى، وهكذا نُعلن ونردد كل يوم في قانون الإيمان، وثانياً : نحن نؤمن بقيامة الرب من بين الأموات. وهنا لا بد من الإشارة بأننا نَعلَم ونعلِّم أن إله ابراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب ليس إله أموات، بل هو إله أحياء (متى 22 : 32)، ونؤمن أيضاً بأن علينا أن نسهر لأننا لا نعلم في أية ساعة يأتي ربنا. ويوم يأتي ابن الإنسان يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ يُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. وﭐِثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى الرَّحَى، تُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى (متى  24 : 39 -41).

لقد أعلن يسوع المسيح في أكثر من مناسبة بأن تلك الساعة لا يعرفها أحد، وعندما نتأمل مثل الحكيمات الخمس نُدرك أن المصابيح تؤخذ مع الزيت كنايةً عن اليقظة والاستعداد، وأنه متى جاء ابن الإنسان في مجده مع جميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويقول للذين عن  يمينه : تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ (متى 25 : 34)، أما الذين عن اليسار فسيقول لهم : اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ، ولا نستطيع في الوقت ذاته أن ننسى مجيء السيد المسيح إلى قبر لعازر حيث قالت له أخت لعازر مريم بعتاب، بعد أن خرّت أمام قدميه : يا سيد لو كنت ها هنا لم يمت أخي، ولكن يسوع المسيح الذي قال: أنا هو الطريق والحق والحياة أمر بأن يرفعوا الحجر. وعندما قالت مرتا أخت مريم له، يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام، قال يسوع المسيح لها : إن آمنت ترين مجد الله، فآمنت هي والذين معها، لهذا عندما صرخ يسوع المسيح بصوت عظيم : لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً. فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ (يوحنا 11 : 43).

لا شك أن موت لعازر وإحياءه كان غريباً جداً في عيون الرسل والتلاميذ أولاً، ثم لكل مَن كان شاهداً على هذا الحدث غير العادي لا بل الخطير، حتى أن يوحنا الرسول يقول : فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ (يوحنا 12 : 9). ويهمنا دائماً أن نرى ما هو رد فعل رؤساء الكهنة وقادة الشعب من فريسيين، وكتبة، وناموسيين وغيرهم، فيوحنا الرسول يصف شعورهم بقوله : فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً (يوحنا 12 : 10). تُرى ما هو سبب حالة النقمة التي جاشت في صدور رؤساء الكهنة، فهم قبلاً عقدوا مجمعاً وتساءلوا فيه : مَاذَا نَصْنَعُ ؟ فَإِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا (يوحنا 11 : 47). وفي هذا المجمع قال قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة : أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، ثم قدّم لهم اقتراحاً مهماً، وهو : خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا. فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ (يوحنا 11 : 49 ـ 53). فالذين جاءوا ليس لأجل يسوع فقط، بل لينظروا أيضاً لعازرٍ الذي أقامه من بين الأموات، كانوا سبباً ليَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً                      (يوحنا 12 : 10).

(3)

أمام عالمين

إذاً نحن أمام عالمين، عالم يسوع المسيح إذ بعد ملء الزمان جاء بالجسد ليخلص الإنسان من أعدائه الألدّاء الثلاث : الموت، والخطيئة، والشيطان، جاء لينادي بملكوت الله على الأرض، انطلق في رسالته بعد أن صام أربعين نهاراً وأربعين ليلةً، وعندما جرّبه إبليس قائلاً له : إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً. فَأَجَابَ: مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ. ومرة ثانية قال لإبليس : لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ. ومرة ثالثة قال له : ﭐذْهَبْ يَا شَيْطَانُ ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ (متى 4 : 1 – 10). فلو سمع اليهود هذا الحوار الذي دار بين السيد المسيح وإبليس، لعرفوا رب المجد، وأدركوا كنه رسالته، ولما فكروا بأن يوجهوا أية إساءة إليه، فعالم السيد المسيح كان عالم المساكين بالروح، والودعاء، والجياع والعطاش إلى البر، والرحماء، وأنقياء القلب، وصانعي السلام والمطرودين من أجل البر (متى 5 : 3 ـ 10)، عالم المحبة الحقيقية البعيدة عن الانتقام، والحقد، والضغينة، والكراهية، فهو الذي قال لتلاميذه ولنا : هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ (يوحنا 15 : 12 و 13) لا بل أعطانا مفهوماً جديداً في محبة أعدائنا، ومباركة لاعنينا، والإحسان إلى مبغضينا، والصلاة لأجل الذين يسيئون إلينا، ويطردوننا، فإذا فعلنا ذلك نكون أبناء أبينا الذي في السموات (متى 5 : 1 – 10 و 43 ـ 45).

مَن من الذين سبقوه في العهد القديم أشاروا إلى عدالة السماء على الأرض، العدالة التي لا تميز بين واحد وآخر مهما كانت الفوارق بينهما، لأن الله يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ (متى 5 : 45).

مَن من الذين سبقوه أوصى بأن نكون كاملين كما أن أبانا الذي في السموات هو كامل، والكمال لا يأتي إلا عندما تُبطل الحواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما علت وارتفعت، هذا هو عالم السيد المسيح.

أما عالم قادة اليهود فلقد بيّنه يسوع في مناسبات كثيرة خاصة عندما أطلق الويل على اليهود وقادتهم، وقد وصفهم وصفاً دقيقاً إذ قال لهم : عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ. فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ. وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ. وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ. وَﭐلتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي !                       (متى 23 : 2 – 7).

وقد استخدم يسوع عبارات حادة جداً مع قادة اليهود، مرةً أطلق عليهم صفة العميان والجهّال، ومرة أخرى سماهم المرائيين، وبيَّن لهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء (لوقا 11 : 45)، ولكن عبارة أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ (متى 23 : 33)، كانت الأقسى، كل هذا لأنهم حوّلوا هيكل الرب إلى مغارة لصوص.

(4)

أحداث قبل موت السيد المسيح

يهمنا في عيد قيامة سيدنا يسوع المسيح من بين الأموات أن نعرف ما وقع من أحداث قبل موت السيد المسيح على الصليب، وتحديداً عندما جاءوا باثنين آخرَين مذنبيَن ليُقتلا معه، يقول لوقا البشير : وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى جُمْجُمَةَ صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ (لوقا 23 : 32 ـ 33).

في طقس جمعة الصلبوت، يسوع كان مصلوباً على خشبة العار، وكل الألحان والكلمات كانت تعبّر عن الحزن العميق الذي أصاب أمنا مريم العذراء والرسل والتلاميذ، وأيضاً من نال الشفاء من رب المجد، عندما كان ينتقل من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى أخرى ومن الجبل إلى السهل فالبحر هذا المنظر الذي وصفه لنا لوقا في إنجيله الطاهر بقوله : وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ (لوقا 22 : 37). نقلاً عن السيد المسيح الذي أعلن : أنه ينبغي أن يتم فيَّ أيضاً هذا المكتوب ولم يفهمه وقتئذٍ الرسل، ولكنه عندما عُلِّق على الصليب مع لصين تذكّروا قوله، ولكن هذا المنظر الكئيب المليء بالحزن لم يغير في مبادئ السيد المسيح التي من أجلها جاء بالجسد، لهذا نراه يقول : يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.

(5)

السيد المسيح مع اللصين

قبل أن نرى أبعاد هذا القول، نقرأ روايتين في الإنجيل عن اللصين. الأولى بحسب مرقس الإنجيلي الذي بيَّن بأن اللصين اللذين صُلبا مع يسوع كانا يعيرانه. أما في رواية لوقا البشير فنقرأ أن أحد اللصين المُعلَّقين كان يجدف عليه قائلاً : إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ \لْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ (لوقا 23 : 37)، وهذا يعني أن هذا المذنب قد انحاز إلى معيري السيد المسيح وانضم إلى كل الذين يسخرون ويستهزئون به قائلين : خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ (لوقا 23 : 35)، أما اللص الآخر بحسب رواية لوقا فانتهر صديقه المذنب قائلاً أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت الحكم بعينه، أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، أما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله. ما هذا التحول الغريب من هذا اللص المذنب المعتدي على الكثيرين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أنه اعتراف صارخ بإيمان صادق بيسوع المسيح المخلص والفادي، خاصة عندما استعمل عبارة أخرى أصبحت من المقولات الشهيرة في الكنيسة، بل هي الأنشودة المفضلة اليوم في طقس يوم جمعة الآلام، فعندما نقف أمام الصليب نردد بالسريانية :

سُــــجـــــــدٍينَن لــــأليبا دبؤ ؤوا فورقنا لنفشًةن

عم جَــــــيُسُا آمرينن مشيحا آةدكرين ما دآُةِا آنْة

أي : لنسجدنَّ للصليب الذي أصبح سبب خلاص لأنفسنا، ومع اللص نقول أيها المسيح اذكرنا متى جئت.

(6)

مفاعيل القيامة

هذه هي مفاعيل القيامة شريحةٌ، تؤمن بالمسيح يسوع ورسالته الخلاصية، وأخرى ترفض بل تنكر ولا تريد أن تعيش نِعَم الخلاص، وهذا ما حصل في حياة الكنيسة منذ تأسيسها وحتى اليوم، وكان رد فعل السيد المسيح أمام توبة اللص الغفران الكامل والإنعام التام بقبوله في الفردوس، فقول السيد المسيح له : ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ (لوقا 23 : 43)، هو الغاية المرجوة من رسالة الخلاص، فقبل وقتٍ قصير من هذا المشهد، وعندما كان اليهود يتفننون في توجيه الاتهام إلى السيد المسيح، وتعذيبه بشتى أنواع العذابات والإهانات، أظهر يسوع المسيح المُعلَّق على الصليب هدف رسالة الخلاص، وجَّه نظره إلى الآب السماوي وبكل رفق وحنان ومحبة صادقة قال : يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. لقد غفر أولاً لصالبيه، ثم منح الغفران للص اليمين، هذه هي رسالة الكنيسة لأبنائها بعيد قيامة ربنا من بين الأموات.

أن تعليم الكنيسة في موضوع الغفران والمسامحة مبني على موقف السيد المسيح من صالبيه، وقبل ذلك نقرأ في العهد الجديد أهمية الغفران بالنسبة لرسالة الخلاص، حتى أنّ زكريا الكاهن عندما تنبأ عن رسالة ابنه يوحنا المعمدان، ربط معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا (لوقا 1 : 77)، والسيد المسيح علّمنا في الصلاة الربية أن نقول : أغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا (متى 6 : 12)،وفي تعليمه الذي سلّمه إلينا كان يجعل من غفران الخطايا درباً من دروب الولوج إلى الملكوت، فمع تعليمه بأن نكون رحماء كما أنّ أبانا أيضاً رحيم، علّمنا أنه عندما نغفر يُغفر لنا، لأن الذي يُغفر له قليل يحب قليلاً.

(7)

كيف عالج يسوع الأمراض

ومعالجة الأمراض بكل أنواعها عند السيد المسيح كانت تبدأ بغفران الخطايا، فمع التي دهنت قدمي يسوع بالطيب قال لها : مغفورةٌ لكِ خطاياكِ، وهكذا فعل مع المفلوج قبل أن يقول له : قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ… فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ وهم يحملون اِلْمَفْلُوجَ قال له : ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ (متى 9 : 2 و 6)، فتعليم السيد المسيح عن الغفران نقلته الكنيسة إلى أبنائها، وجعلت منه سراً مقدساً وهو سر الاعتراف والتوبة، فعندما نقول : تاب الله على الإنسان، نقصد بأن الله عاد على الإنسان بالمغفرة. وكما نقول بالسريانية ةيبوةا Tyobutho ـ أي التوبة تعني العودة إلى الوضع السابق، لأنه في التوبة ينسحق القلب، ويندم على الخطايا السالفة، فعندما يبدأ الإنسان بنقد ذاته، ويعرف كم أن الخطيئة قد أثّرت على ما في داخله، ويقرر إصلاح ذاته، عندئذٍ يكون قد تاب، مثلاً رَبطُ السيد المسيح القربان أمام المذبح بالمصالحة له أهمية كبيرة في مسيرة الخلاص. يقول متى الرسول على لسان السيد المسيح : فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ. فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ (متى 5 : 23 و 24). قمة المحبة، تظهر هنا على هيئة مصالحة قلبية، لأنك عندما تكون أمام المذبح، وتتذكر إساءتك لأخيك الإنسان تدرك أنك أخطأت في حق المحبة، فأنت لا تستطيع أن تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ… وأن تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ (متى 22 : 37 و 39) وأنت في حالة خصام مع أخيك.

(8)

التوبة والغفران

بهذا نرى أن موضوع التوبة والغفران قد دخل في مسيرة الكنيسة من خلال تعليمها أولاً، ثم من الأسرار التي تتفاعل في حياة الإنسان. ويختلف مفهوم الاعتراف والتوبة والغفران كثيراً بين ما كان يجري في العهد القديم وما أصبح في العهد الجديد، فطقس المغفرة للخاطئ في العهد القديم كان مبنياً على ذبيحة تقدم أمام خيمة الاشتراع قدام خيمة الرب، وكان الدم هو الرمز إلى الغفران الذي يناله الإنسان، أما السيد المسيح فقد قدّم دمه فداء عنّا على خشبة الصليب، وقطرات دمه طهّرت قلوبنا وضمائرنا. وكل حركة في حياتنا من أعمالنا الميتة تُظهر أنَّ حامل خطايانا الذي ارتفع على خشبة الصليب، وأحصي مع الأثمة، وقدّم ذاته ذبيحةً حيةً دائمةً من أجلنا، لم ينتقم من صالبيه، ولم يحقد عليهم، ولا أراد أن يسيء إليهم، بل توجه برسالة الغفران إلى الآب السماوي وقال : يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. كان يريد أن يعلّمنا معنى الغفران الحقيقي، وهذه هي قمة التعاليم المسيحية بعد القيامة المظفرة.

في كنيسة أنطاكية السريانية، وفي أول يومٍ من أيام الصوم الكبير المقدس نفتتح صيامنا بطقس المسامحة، ونصلي قائلين : اجعل يا رب قلوبنا مخادع الأمن، ونوايانا موانئ السلام، وابذر في نفوسنا محبةً صادقةً لكَ ولبعضنا بعضاً، ووطّد فينا مودةً، واتحاداً، وألفة، وتقوى، لنعطي السلام بعضنا لبعض بنقاء، ونقتبله بصفاء. والذي يحتفل بهذا الطقس يسجد ثلاث مرات أمام المؤمنين ويردد : سامحوني لأجل المسيح، وهذا يعني أن الغفران والمسامحة واجب على الكبير والصغير. هذا هو تعليم الكنيسة منذ البدء، أي أن يقف الخاطئ أمام الله بخشوع وورع وفي حضور الكاهن يعترف بخطاياه. والاعتراف بالخطيئة يعني أن يسامح كل الذين أساءوا إليه، ويغفر لهم لكي ينال الغفران من الله، ويقول يوحنا الرسول :إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ. إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا (1 يوحنا 1 : 9 – 10).     

إن أنظارنا تتجه اليوم إلى الجلجلة، حيث صُلب ومات المسيح من أجلنا، إلى ذلك القبر المنحوت حيث لم يكن أحدٌ قد وضع قطُّ، فانزله فيه يوسف المُشير والرجل الصالح والبار بعد أن لفّه بكتان، وإلى ذات القبر حيث ذهبن حاملات الحنوط ومعهنّ أناس فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر، فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع، وفيما هنّ محتارات وخائفات، قال رجلان وقفا بهنَّ بلباس أبيض لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ. لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لَكِنَّهُ قَامَ (لوقا 24 : 5).

أمام هذا المشهد نشعر بأننا قد نلنا نِعم وبركات قيامة ربنا من بين الأموات.