كلمة الإعلامي الأستاذ غسان الشامي في الحفل المركزي الذي أقيم بمناسبة السنة اليوبيل في أبرشيتنا السريانية الأرثوذكسية بحلب

من الرُها إلى حلب

غسان الشامي

أن تجيء من الرُها ، أو أن يكون شفيعك مار أفرام ..إنها -وايم الله- مكرمةٌ عظيمة.

أمّا أن تختار حلب قصداً وسكنى فهذا انتماء عزيز باذخ.

كيف لي أن أختصر مدينتين عظميتين وبينهما “مَارٌ “طافح الروح ِوالسنابل بكلمات قليلة، كيف…؟!

الفاتحة من الضلع الأول في المثلث:

الرها ، أورهاي ، أوديسا، أورفة.

حتى الطاغية كمال أتاتورك، عندما حاول تتريك اسمها لم يستطع تجاهل عظمتها ، فسمّاها “شانلي أورفة “، أورفة العظيمة.

ذات زلزال مقيت، كنا نهبط في مطارها برفقة قداسة البطريرك أفرام، وكانت ضربات قلبي تكاد تسمع ، وأنا أرقب الأرض السورية المعذبة التي طالما حلمتُ بعبيق تربتها .

أول الحروف العصملية المُغَرّبة على واجهة مطارها الصغير ..تقول “أورفة العظيمة “.

كل شيء غريب عن مباحثي التاريخية ..عن قراءاتي والصور التي اختزنتها عن مدينة الشمس والطين وسهوب الخير والعمارات الدينية الباهرة التي وردت في صدور الكتب..وليس فقط في بطونها.

ما لم يتم تتريكه تم تكريده..

إنها ببساطة لا تشبه تاريخها ، وهذا بديهي فأينما يعبر القتلة تتغير الديمغرافيا وتنزاح ، وينزاح معها التاريخ والعمران.. لكنهم لم يقدروا على إزاحته فخامة الاسم .

الرها ..السرير الحضاري ومنصّة الآداب والعلوم السريانيّة القديمة..مملكة الأباجرة .. التي يشير التقليد إلى الرسائل بين ملكها السرياني أبجر والسيد المسيح ..أهم أسقفيات سوريا في القرون المسيحية الأولى..مرتع مار أدي وبرديصان وجوقة موسيقى مار أفرام.

عندما ترك السريان الرهاويون ذات إبادة ذلك البهاء التاريخي مُكرهين، انداحوا في الجزيرة السورية الفراتية ذاتها وتابع الكثيرون منهم إلى حلب .

الضلع الثاني من هذا الجسد الحضاري، بَشَريٌّ على رتبة مار.. أو سيّد.. أو قديس .

إنه مار أفرام .صحيح أنه ولد في نصيبين ولكن من ألقابه أفرام الرهاوي.

الشاعر والكاتب الثرُّ والفاحش الثراء الفكري ..الواعظ الذي لا يشق له غبار ..سيد البيان ، وحافظ الإرث الشعري الموسيقي الترتيلي للسريان .

يكفيه ما وصفه به يوحنا الذهبي النُطق: أفرام كنارة الروح القدس , ومخزن الفضائل , مُعَزّي الحزانى ومرشد الشبان وهادي الضالين ..

إنه شمس السريان التي لم تقوَ عتمة الكون عليها، فلا عجب أن يحملونه بين أضلعهم وطيَّ قفاطين رهبانهم، وفي أوتار حناجر أولادهم، وبالأخص إلى حلب ، فيبنون كنيسة على اسمه نحتفل بمئويتها.

الضلعُ الثالث حلب.

المدينة المأهولة الأقدم في العالم ، الباسقة على درب القوافل القديم ..درّة طريق الحرير ..سوق المشرق وفندق الغرب في القرون الوسطى.

حلب ، يمحاض الآموريين ومملكة الآراميين..لا شبيه لها في المدن ..لم يبقَ جيش لم يحاصرها أو يحتلها.. وتنهض.

مرَّ عليها الدهر وناوشها الزمان وعبر الحثيون والميتانيون والآشوريون والبابليون والأرمن والفرس والرومان والبيزنطيون وجاءها العرب ..

وصلتها البشارة باكراً وتركّز فيها كرسي أسقفي منذ شهقة المسيحية الأولى.، ومن أساقفتها أوستاثيوس وأقاق وغريغوريوس ابن العبري ويوحنا ابراهيم وبولس يازجي.

حلب. لم يستطع طغاة العالم القديم وأوباش العصر الحالي تركيعها أو حنيَ رأسها ..فيها حلّ السريان وتناموا وأنتجوا من ضمن جسد وطني سوري.

جاءت هذه الحرب الوقحة والظالمة وتركت ندوباً كثيرة على جسد حلب ، أحدها جرحُ وألمُ فتح قبل عقدٍ وما زال ينزُّ.. إنه إثمُ وجريمة خطف المطرانين الصديقين إبراهيم واليازجي ..جرح سيبقى مفتوحاً حتى الكشف عن مصيرهما.

جرحٌ دليلٌ على البشاعة، مثل بشاعة الدمار الذي طال حجارتها البيض.

أخيراً.

أعرف أن من سأتكلم عنه الآن لا يحب المديح.. وأنا لست مدّاحاً.. لكن هذا الاحتفال يأتي في الذكرى العاشرة لاستلام قداسة البطريرك أفرام الثاني عصا الرعاية السريانية الأرثوذكسية .

إنه بطريرك متحدّر من تلك السهوب الرهاوية البهية.. في ذلك الشرق السوري المكلوم في الرها ونصيبين وديار بكر وماردين …

من قرية حباب إلى القامشلي وحلب منها إلى المسكونة كلها متأبطاً تعب العمل والعلم. الثنائية التي رافقت السريان ، رغم كل سيفو .

تعبٌ كثير وحصاد وفير أتمناه لك.. ريش ريشوني.

شكراً نيافة المطران بطرس قسيس .

شكراً لكم.