(نقلاً عن الشروق نيوز) ـ الصحفي سامح فوزي :
أحسن الأزهر صنعاً عندما طرح نفسه فاعلاً أساسياً في بناء التوافق بين المصريين، وهو دور بدأه مع صدور « وثيقة الأزهر » في منتصف شهر يونيو الماضي، واستمر حتى توج بوثيقة أخرى عن الحريات العامة، وبلقاء جمع بين سياسيين ورموز دينية. صناعة التوافق في زمن التحولات الجذرية مهمة ثقيلة تقوم بها هيئة ينظر إليها المختلفون باحترام لدور تلعبه، أو لاستعادة دور كان لها في الماضي. ولا مفر من أن يكون « الدين » حاضراً في بناء التوافق، حتى إن لم يكن حاضراً في الثورة ذاتها.
ويكاد يكون الأزهر هو المؤسسة الوحيدة التي تحظى بما يشبه التوافق بين المصريين، وتجمع فرقاء لم يعودوا يجتمعون، أو يلتقون في رحابها للمرة الأولى. في هذه المناسبة لم يطرح التوافق من خلال اجترار أحاديث عامة عن الوطنية والوطن، ولكن بالاتفاق حول قضايا سياسية وقانونية تمثل أسس بناء النظام الديمقراطى مثل حرية الرأي، حرية الاعتقاد، والحريات الأكاديمية، وحرية التعبير. أخبار صناعة التوافق طارت إلى حلقة نقاشية عقدها « المجلس الأوروبي للقادة الدينيين » في النرويج حول « دور القادة الدينيين في المجتمعات المحررة »، فلم يجد سوى أن يرسل تحية، وتعضيداً للأزهر، وشيخه المستنير في بيانه الختامي على ما يقوم به من جهد عملي مباشر. ولكن هناك هوامش أساسية ينبغي التوقف أمامها.
(1)
في الصومال عندما سقط نظام سياد برى، ودخلت البلاد في الحرب الأهلية نجا شمال الصومال بنفسه، واستطاع أن يجتمع حول مبادئ أساسية من خلال الحوار الذي دار بين أطرافه الأساسيين. أما جنوب الصومال فقد جرب كل أشكال الحروب الأهلية، والتدخلات الخارجية، وانتهى به الحال إلى ساحة حرب، وتطرف، وإرهاب امتد إلى غيره من الدول الأفريقية. هذا مثال أساسي على أهمية صناعة التوافق محلياً. الحل دائماً يأتي من الداخل في نهاية المطاف. وفى العراق يسير النظام السياسي على عكاز نظراً لأنه تشكل من رحم تدخلات خارجية، وهناك شكوك حقيقية حول استمراره في المستقبل حيث تعمل آلياته السياسية على إنتاج الصراع بدلاً من الثقة بين مختلف الأطراف.
الحالة المصرية ينبغي أن تقدم نموذجاً مختلفاً لبناء توافق يعزز التعددية السياسية والدينية في إطار ديمقراطي، ولم يعد أمامنا إلا الاعتماد على سواعدنا، ومخزون الخبرات المؤسسية، والسوابق التاريخية، ولا سيما أن غيرنا لم يعد لديه ما يقدمه لنا سوى الخوف والتبعثر.
في معرض تعليقه على موقف أوروبا من « الربيع العربي » يذكر « تورند بكفيك » ــ وهو من الشخصيات الدينية المؤثرة في الكنيسة النرويجية ــ أن الأوروبيين ليس لديهم ما يعلمونه للعرب، تاريخ أوروبا مليء بالعنف في إدارة التعددية الثقافية والدينية والإثنية، في حين أن المجتمعات العربية حافظت على التعددية الدينية والمذهبية والإثنية لقرون طويلة. ولم يعد مقبولاً أن يتعامل الأوروبيون مع العرب، مثلما تتعامل الولايات المتحدة مع إيران على أنها دائماً مصدر المشكلات، عليها أن تجيب عن أسئلة مستمرة، وتفصح عن سلوكها الحالي والمستقبلي. الآن يجب أن يدرك الأوروبيون أن « الحوار والتعلم المتبادل » هو المدخل الحقيقي للتعامل مع الواقع العربي الجديد. وفى رأيه أن « الربيع العربي » يعطى مساحة أوسع من الحرية للقيادات الدينية، بعيداً عن الارتباط بالحكومة أو الدولة، بما يتيح لها فرصة تأسيس نظام جديد يقوم على العدل، والحرية، والمساواة، والمواطنة، وأن الارتباط بين الدين والهوية الوطنية، مثلما هو الحال في مجتمعات كثيرة من بينها النرويج نفسها لا ينبغي أن يأتي على حساب الحقوق المتساوية بين كل المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية.
(2)
الهامش الثاني « شرقي » من مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، مطران حلب للسريان الأرثوذكس الذي يتخوف من إشكاليات الحضور « غير العربي » في « المشهد العربي » في اللحظة الراهنة، مثلما كان له تداعيات سلبية في السابق. وفى رأيه أن الإيمان المسيحي في الغرب، لم يدعم الإيمان المسيحي في الشرق. بل على العكس التفاعل مع الغرب هو الذي بث الفرقة بين الكنائس في العالم العربي. في سورية يشعر المسيحيون بالقلق، ويخشون أن يتحول القلق إلى خوف. قدموا حتى الآن أكثر من ثمانين شهيداً، وعشرات الجرحى في المواجهات بين النظام والمعارضة. لم يٌستهدف مسيحي أو كنيسة أو دير أو مبنى كنسي، وبرغم ذلك الخوف مما حدث في العراق ماثلاً في الأذهان، حيث انخفض الوجود المسيحي في ظل الاحتلال الانجلو ـ أمريكى من ثمانمائة ألف إلى أقل من أربعمائة ألف. ويضيف المطران إبراهيم : أن الغرب ألقى مصطلح « الأقلية »، منتجاً غربياً خالصاً، ويعيش المسيحيون منذ عقود معركة الدفاع عن أنفسهم بأنهم ليسوا أقلية، هم جزء حي حاضر من المجتمعات العربية، وإن كانوا أقل عدداً. اليوم هناك تخوف أن يلج التدخل الخارجي من بوابة « حماية الأقليات »، ويدفع المسيحيون ثمناً جديداً لاختلافهم الديني مثلما دفعوا في السابق ثمن حروب الفرنجة الشهيرة. الخوف على الحضور المسيحي كان مثار تصريح آثار جدلاً واسعاً للبطريرك المارونى بشارة الراعى بأن المسيحيين يخشون القادم، تحدث من الذاكرة اللبنانية المجروحة من الهجرة المسيحية بكثافة، التي يدعمها الغرب، وخوفه من تراجع وضعية المسيحيين، مكانةً وحضوراً، تأثيراً وعدداً في ظل الربيع العربي.
(3)
الهامش الثالث من الإمام « يحيى بلفانسينى » رئيس مجلس الايسيسكو للتعليم والثقافة في أوروبا ــ الذي ذهب إلى أن الدين لم يكن المحرك للثورات العربية في مصر وتونس وليبيا، ولكن المحرك الأساسي للشعوب كان السعي لتحقيق الكرامة الإنسانية، وبرغم ذلك تصدرت الحركات والقوى الإسلامية المشهد. هل يمكن أن تقدم هذه الحركات حلولاً جديدة، نابعة من إسلاميتها، للسياسة والثقافة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية أم سنشهد نماذج إسلامية في مواجهة بعضها بعضاً ؟ هل سيأتي يوماً نرى الإسلاميين فيه يسيرون على خطى « الديمقراطيين المسيحيين » في أوروبا ؟. في رأيه أنه ما لم تستخدم التيارات الإسلامية العنف، أو تسعى لفرض قناعاتها على القوى السياسية الأخرى يجب أن تٌعطى « فرصة » حتى تستطيع التعامل مع المشكلات القائمة في المجتمعات العربية، ليس من منطلق استعادة نماذج قديمة، أو بالحنين إلى ماضي تليد، ولكن من خلال التوفيق بين فهم الواقع والتقاليد الإسلامية. وخلال هذه العملية الممتدة تحتاج القوى الإسلامية إلى غيرها، وليس الاستئثار بالمشهد وحدها.
(4) هذه الهوامش تتفق على أن مستقبل المجتمعات العربية، ومن بينها مصر في ظل « الربيع العربي » ينبغي أن يٌصنع داخلياً بالتوافق. أحد متطلباته الأساسية أن يصب مباشرة في تدعيم « التماسك الاجتماعي »، من خلال احترام التعددية، والتنوع، والمواطنة، واعتبار « الدين » طاقة للاستقلال والتحرير، وليس مقدمة لإعادة إنتاج نظام آخر يحمل سمات الاستبداد السياسي. الديمقراطية حريات، كما فهمها الأزهر، وليست أغلبية في مواجهة أقلية. هذا هو تحدى « الفرصة الراهنة »، الذي يقود النجاح فيه إلى تقديم نموذج لمجتمع أحدث ثورة من داخله، وأعاد بناء التوافق حول النظام الجديد من داخله أيضاً بالاستناد إلى قيمه ومؤسساته وقياداته. هل يمكن أن يٌخرج التوافق « الديني ــ السياسي » مصر من عنق الزجاجة ــ أي الجدل بين الأغلبية والأقلية أو الاستقطاب الإسلامي العلماني إلى الاتفاق على المشتركات الأساسية ؟