نشرت مجلة المجتمع الاقتصادي، حواراً أجراه الإعلامي فراس خربوطلي مع نيافة راعي الأبرشية مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم، وذلك في عدد كانون الثاني /2010/، وهذا نص الحوار :
المطران يوحنا ابراهيم رئيس طائفة السريان الأرثوذكس بحلب، شخصية دينية ووطنية معروفة، بل هو عَلَم في عالم الحوارات بين الأديان عامة، وبين الإسلام والمسيحية بصورة خاصة. يحضر مؤتمرات في كل أنحاء العالم، ويلقي فيها الخطب، عَرَفته كل المحافل الدينية والحوارية بأنه المواطن السوري الذي يرفع راية الأخوة والعيش المشترك في بلده، ويُقدم سورية كأنموذج للعلاقات بين الأديان والمذاهب والانتماءات. له كتب ومقالات باللغات العربية والسريانية والإنكليزية والإيطالية بينها كتابه المعروف : قبول الآخر، الذي أعيد طبعه مؤخراً لمرة ثانية. أسس دار نشر بحلب باسم دار ماردين/الرها، وأصدر أكثر من /180/ كتاباً بأربع لغات. بعد دراسته اللاهوتية والفلسفية في كلية مار أفرام بزحلة، أكمل تخصصه في التاريخ الشرقي والقانون الكنسي في المعهد الشرقي بروما، كما أمضى سنتين دراسيتين في جامعة برمنغهام لإعداد أطروحة الدكتوراه بعنوان : النصارى العرب قبل الإسلام في بلاد مابين النهرين. مجلة المجتمع الاقتصادي التقت المطران يوحنا وكان هذا الحوار :
س 1 : ما أهمية التعايش والتفاهم الديني والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين من حيث المبدأ ؟
ج 1 : أعتقد، أولاً يجب أن نتفق على العبارات المستخدمة في عالم العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، نحن في سورية منذ زمن بعيد تجاوزنا موضوع التعايش، وأيضاً نعتبر أن التفاهم كان حاصلاً منذ البداية، ولكنه انقلب إلى اتفاق كامل. والحالة التي نعيشها اليوم، هي حالة العيش المشترك التي تضم كل المواطنين، من أين جاءت انتماءاتهم الدينية، والمذهبية، وغيرها ؟ نعيش مع بعضنا في حوار الحياة الدائم، ونضرب أمثلة من خلال تجارب الحياة وكيف وقفنا مع بعضنا في خندق واحد دفاعاً عن كرامة الوطن وحرية الإنسان، وأن مصادر الإسلام والمسيحية تتفق على أن الإنسان المهّمش والجائع والعطشان والمشَّرد، يخدم بغض النظر عن دينه أو لونه، هكذا عندما طلب السيد المسيح أن يُساعَد لم يتحدث عن هذا الانتماء، إذاً العيش المشترك هو عندما ينطلق الإنسان من مفهوم المواطنة.
س 2 : كيف تنظرون فعلياً إلى هذه المسألة في سورية ؟ وهل هناك ملاحظات أو تحفظات يمكن أن تطرح، ونسعى نحن والقرّاء على تلافيها ؟
ج 2 : نعم، نظرتي أنا شخصياً إلى موضوع العيش المشترك في سورية قد تختلف عن نظرة الآخرين، فأنا بإيمان صادق ووعي كامل أعلن بأن العيش المشترك هو الضمانة التي تجعل كل مواطن يكون متساوياً في الحقوق والواجبات، ودائماً أذكر بأن العدالة موجودة في الدستور السوري، وفي رؤية كل المسؤولين في السلطة والحزب وعلى رأسهم سيد البلاد. ولكن هذا لا يمنع أن تكون هنالك اختراقات من قبل فئات أو مجموعات أو أفراد لا تريد أن يعيش الإنسان في سورية مرتاحاً، وهذا يأتي من أمرين؛ إما أن تكون هنالك جهة بعيدة عن واقعنا تريد الإيقاع بين الإنسان وأخيه الإنسان، أو أن يكون الجهل مسيطراً على ذهنية الأفراد والجماعات التي لا تعي مفهوم العيش المشترك، مع كل هذا، وبشكل عام، نرى أن الوعي يزداد ورؤية الإنسان تختلف عن هذا الإنسان في بلدان أخرى.
س 3 : أنت قلت بأن تعدد الثقافات في بلادنا هو جزء من الحضارة التي ننادي بها، فما هي هذه الحضارة التي أشرتم إليها ؟
ج 3 : بشكل أكيد نحن ننتمي إلى حضارة واحدة، وهي حضارة هذا الشرق، لأن الحضارة كانت موجودة وتواصلت في كل المراحل والأزمنة، ومنذ البدء كانت الحضارة مبنية على الثقافات، فلا التاريخ، ولا الجغرافيا، ولا الأديان، ولا المذاهب، ولا التيارات الفكرية والسياسية، ولا الأيديولوجيات، ولا اللغات ولا الخلفيات الأثنية تستطيع أن توقف مسيرة الحضارة، أو أنها طوت صفحة، وتفتح صفحة جديدة. فالحضارة تضم كل المراحل بكل ما فيها من عطاء فكري أو ديني أو إنساني، أما تعدد الثقافات فهذا معروف من تاريخنا البعيد والقريب، فعلى هذه الأرض الواسعة عاشت شعوب وأمم وقبائل بينهم الأكاديون، والكنعانيون، والآراميون، والكلدان، والآشوريين، والعرب، وغيرهم من الأقوام، ربما بعض هذه الأثنيات لم يبقَ لها وجود فعّال على أرض الواقع، ولكن لو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن حضارة الأرض كانت ترتكز على ثقافات ولغات شعوب هذه المنطقة، من هنا أرى أن تعدد الثقافات هو ركيزة لهذه الحضارة الشرقية الواحدة التي نحن ننادي بها.
س 4 : لا شك أن لنيافتكم رسالة ثقافية وطنية على الصعيدين الديني والوطني، خاصة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، ماذا تحدثنا عن هذه الرسالة ؟
ج 4 : أنا أتكلم كمواطن أولا،ً وكرجل دين ثانياً، وأؤكد أن لكل مواطن كما لكل رجل دين رسالة في الحياة، فالمواطن الذي يؤمن بالتعددية بشكل عام له رسالة. المواطن يستطيع أن يعلن عن هذه التعددية قولاً وعملاً، فليست من مشكلة عندما تتعانق الأديان مع بعضها، وليس من ضرر عندما تتعايش الثقافات مع بعضها، بل هذا هو غنى للمواطن والوطن في آن، فرسالتي أنا كمواطن هي أن أؤكد على الوحدة في التعددية، وأن أعمل على إبراز هذا الوجه الواحد في شكله الخارجي والمتعدد بألوانه، وثقافاته، ومكوِّناته. وفي الوقت ذاته كرجل دين أرى تمتين العلاقات بين أبناء الديانتين الدينية والمذهبية، هذا هو نصر لكل أبناء الوطن الواحد. ومن الواجب إذاً أن أحمل هذه الرسالة الثقافية في حياتي، سواء كان في خدماتي وعظاتي في الكنيسة، أو في علاقاتي ولقاءاتي الثقافية والاجتماعية في سورية وخارجها والتي توطد هذا المفهوم للأسرة الواحدة تحت سقف الوطن الواحد، هذه هي رسالتي أن يعيش الجميع ضمن إطار الوطن الواحد.
س 5 : يقوم بعض السفراء والوفود الأجنبية وشخصيات تأتي من خارج المنطقة بزيارة دار المطرانية، كيف لمستم نظرتهم لحالة العيش المشترك في سورية ؟
ج 5 : في الحقيقة في كل سنة نستقبل حوالي عشرين مجموعة، تأتينا من الدول الأوروبية، وهذه الوفود تكون في زيارة خاصة لمعالم سورية السياحية والدينية والأثرية، ففي برنامجها تلتقي بشخصيتين دينيّتين واحد يمثّل الإسلام والآخر يمثّل المسيحية، وعادة هذه الوفود تأتي إلى مطرانيتنا. وفي معظم الأحيان عندما يزور سفير قادم من دمشق إلى حلب يقوم بزيارتنا.
حتى أكون صريحاً في كلامي، ليس كل أولئك الذين ذكرناهم متفقين على أن سورية هي كما نصفها نحن، لذلك بعد أن نقوم بشرح معالم الوحدة الوطنية والإخاء الديني والعيش المشترك وكيف أنها راسخة بيننا كمواطنين، تنهال علينا، الأسئلة بعضها هي في دائرة الطبيعي، وبعضها الآخر هي عبارة عن أسئلة واستفسارات محرجة، أرى أن الذي يطرحها متأثر بالإعلام الغربي الذي يشوِّه الحقائق في كثير من الأحيان، من هذه الأسئلة : هل حقيقة أن المسيحيين في سورية ليسوا مضطهدين ؟ هل أن العدالة موجودة، والحريات متوفرة، والكنيسة تتساوى أمام السلطة والدستور مثل الجامع ؟ هل أن مفهوم الأقلية والأكثرية ينمو ويزداد وهل شعور المسيحيين كونهم من الأقليات يؤثر على وضعهم الراهن ؟ ثم بعض التفاصيل عن شؤون التربية، والمرأة، والتعليم الديني، وتمثيل المسيحيين في الوظائف والإدارات وغيرها. ويتراءى لنا أنه بعد الشرح الصادق يتراجعون عن بعض تصوراتهم، ولكن لا نستغرب أن يبقى بعضهم أيضاً متشبثاً بما سمعه أو قرأه قبل أن يأتي إلى سورية. نحن رسالتنا في كل الأحوال هي أن نؤكد أن سورية عملياً هي الأنموذج العملي للعيش المشترك بين أبناء الديانات والأثنيات والثقافات.
س 6 : نقرأ في أخبار حلب أنكم تبدون اهتماماً بالغاً لمدرستي بني تغلب الأولى والثانية، كيف تقيّمون هاتين المؤسستين التربويتين ؟ ولماذا تودعون الصف السادس في بني تغلب الأولى ؟
ج 6 : إن الاهتمام بالمدرستين هو من باب التأكيد على دور الكنيسة في خدمة الوطن وأولاد الوطن، فالمدرسة هي مصنع الرجال والأمهات، وهي المكان الحقيقي لحوار الثقافات والأديان والمذاهب، فالطالب في المدرسة يشعر بأنه جزء لا يتجزأ من هذه الأسرة الواحدة، والدراسة هي العبور إلى المستقبل. فإذا تسلّح الإنسان بالعلم يكون قد تجاوز الجهل بكل تفرعاته، وهذه رسالة يجب أن نعمل على تعليم وتثقيف الأجيال القادمة لتكون مؤهّلة لخدمة الوطن الواحد. أمّا لماذا أودع الصف السادس فهذا إحراج لي كصاحب هذه المدرسة، لأنني لا أستطيع أن أحصل على ترخيص للتمديد إلى القسم الثاني من مرحلة التعليم الأساسي. وهنا لا بد وأن أوجه عتباً على الذين لم يميزوا بين مدارس تأسست من سبعين وثمانين سنة، وقدّمت خدمات جليلة للمجتمع والوطن ويكفيها أنها قدّمت مئات الطلاب إن لم نقل آلاف منهم ليكملوا تحصيلهم العلمي ثم يعملوا في حقول الوطن المتنوعة، وبين مدارس تتأسّست اليوم. فكل ما هو مطلوب من ساحاتٍ داخل وخارج المدرسة هو حق، وهذا شيء نحن نفتقر إليه، لأن مواصفات المدارس سابقاً لم تكن كما هي اليوم. إذ أن مدرسة موجودة في حارة شعبية تخدم عائلات من الطبقة الوسطى، خاصة وأن أكثر الطلبة يأتون مشياً على الأقدام، والآن بناء المدرسة يتسع كصفوف أما الملاعب فهي محدودة، تعترضنا مشكلة إقناع أولئك المسؤولين بخدمة الطلبة، فلم نحصل حتى تاريخه على ترخيص، علماً كما قلت الدولة يجب أن تراعي ظروف المدارس التي تأسست قبل خمسين سنة مثلاً.
س 7 : ما هي الخدمات التي تقدمها المؤسسات الكنسية ؟ ومن هي الشرائح المستهدفة ؟ وأين هو الدور الاجتماعي والوطني في خدمات المطرانية ؟
ج 7 : كل نشاطات المطرانية هي خدمية، فحركة العمران تؤمّن مساكن للشباب والعائلات وتساعد في أن يستأجر من يريد محلات وحوانيت. والمؤسسات التربوية والثقافية مفتوحة للجميع، فمدارسنا الخاصة ليست لها أي صبغة طائفية، والطلبة المسلمون والمسيحيون يعيشون مع بعضهم كأخوة وأخوات، والمؤسسات الصحية أبوابها مفتوحة للمرضى والمحتاجين وأيضاً من كل الأديان والمذاهب، فعندما تدخل إلى مستوصف تابع للكنيسة تستغرب كيف أن العشرات من مسلمين ومسيحيين يجلسون مع بعضهم في صالة الانتظار، وكل بحسب دوره ينال ما يريد. فالأطباء يعملون بإخلاص، رغم أن المبلغ الذي يتقاضونه هو رمزي، والمريض عندنا يدفع مبلغاً رمزياً، ولكنه بعد الكشف الطبي يمكن أن يدخل إلى واحدة من المشافي المرتبطة بالمستوصف بحسم جيد متفق عليه أو يحصل على الدواء مجاناً، وهنا أريد أن أشكر أصحاب مصانع الأدوية التي تزوّدنا بكميات مهمة من صنعها مجاناً. والنشاطات الأخرى ضمن دائرة الكنيسة تضم المئات من الذكور والإناث، ولكن دائماً يبقى التوجه نحو كيف تستطيع أن تخدم الآخر الذي هو أخ لك في المجتمع، والمطرانية بهذا التوجه تعمل ليل نهار، وقد أثبتت خلال السنوات السابقة كيف أنها التفتت إلى الوافدين من العراق، فخدمتهم وقدّمت لهم كل المساعدات الممكنة من تعليم وصحة وتقديم خدمات قانونية خاصة في شؤون علاقاتهم مع السلطة في سورية، وهذه خدمة جديدة تُضاف إلى خدمات المطرانية التي لها باع طويل في مجال خدمة الفقير والضعيف والمحتاج والمهَمَّش، هذا هو الدور الاجتماعي الذي نعتز به لأننا بذلك نخدم وطننا أيضاً.