الأمير حسن والوفد السرياني

صباح يوم الاثنين الموافق في 18/1/2010، التقى نيافة راعي الأبرشية مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم، في فندق Kempinski في عمان، سمو الأمير حسن بن طلال لمدة ساعة ونصف، وقد جرى الحديث حول أهم شؤون الساعة، منها هجرة المسيحيين من الشرق الأوسط، ومستقبلهم في البلدان التي فيها صراعات اثنية ودينية ومذهبية. ثم انتقل الاثنان إلى إحدى الصالات، حيث كان الوفد المرافق لنيافته من حلب يتقدمهم كل من : الأب الخوري جوزيف شابو، والأب عمانوئيل البناء ومعهم كل من رئيس الجمعية السريانية في عمان السيد جورج هزو، ونائب الرئيس السيد ملكي الأسمر.

وقد ألقى نيافته كلمة بعنوان : رؤى في مستقبل المسيحيين في الشرق، قدّم فيها تحليلاً موضوعياً لكتاب سموه : المسيحية في العالم العربي، الذي شكَّل واحداً من المصادر الهامة التي تتحدث عن المسيحية في العالم العربي. وقد توقف عند الفصل السابع من هذا الكتاب وموضوعه : الفرق الذي أحدثه الإسلام، وقال : وخاتمة الكتاب، سمو الأمير، هو الذي أريد أن أتوقف عنده، فأنتم بعد استعراضكم التاريخي الرائع للحضور المسيحي، تقفون عند مكانتهم، ودورهم في العالم العربي المعاصر، فلهم وجود ملحوظ في كل الوطن العربي، ولا يوجد مسيحيون محليون في الجزيرة العربية، ولا في البلاد الإفريقية إلى الغرب من مصر، والفئة الكبيرة من المسيحيين المحليين في السودان ليست من أصل عربي، وأن الإحصاءات المتاحة لأعدادهم تتفاوت بين رقم مبالغ فيه، وعدد متحفظ، إلى حد إطلاق النذير بقرب زوال المسيحية من بين العرب، ولكن في رأي سموكم أيضاً أن هذه الأعداد الضئيلة نسبياً في العالم العربي المعاصر، لا تعادل إطلاقاً الأهمية التي يتميز بها حضورهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وحضورهم السياسي في بعض الأحيان، سواء أكان في الأقطار التي ينتمون إليها، أو في المجتمع العربي كله، وهنا إشارة إلى دورهم في النهضة العربية انطلاقاً من إعادة اللغة العربية إلى رونقها الأصيل، ومساهمتهم في زرع مفهوم القومية العربية، وذلك من خلال دورهم في الصحافة العربية من جهة، وفي مجالات التربية والطب، وغيرها من المجالات من جهة أخرى. وسياسياً ما عدا الموارنة الذين كان لهم الدور القيادي في تنظيم لبنان، ظهرت شخصيات مسيحية لعبت أدواراً مهمة في الدور السياسي، الذي أفضى إلى تنظيم بعض دول عربية أخرى، وصون مصالحها، والمصلحة القومية العربية عامة. وتذكرون بين الدول، مصر وسورية والعراق وفلسطين، وتشهدون بأن المسيحيين العرب حتى يومنا هذا، هم من أهم المدافعين عن القضايا العربية القومية، وخصوصاً القضية العربية الفلسطينية.

ثم انتقل نيافته إلى موضوع هجرة المسيحيين، وتساءل ما هي الدوافع الأساسية وراء هجرتهم من الشرق ؟ ولماذا ينسون تاريخ ارتباطهم بالأرض ومال لهم عليها من كنائس وأديرة ومراكز دينية كانت مصادر إشعاع فكري للإنسان ؟ وأجاب : لا أحد ينكر بأن عامل الأمن في المنطقة هو سبب من الأسباب التي أدت إلى موجات من هجرة المسيحيين إلى خارج المنطقة. ويقف عامل الخوف من المستقبل المنبثق من عدم توفر الأمن في المنطقة بين هذه الدوافع. يكفي أن نذكر هنا ما حصل للمسيحيين في فلسطين، ثم في لبنان، وبعد ذلك في إيران، واليوم في العراق، والأعداد الكبيرة من المسيحيين الذين غادروا المنطقة وكلهم عبّروا عن عدم ارتياحهم للأجواء المتوترة التي مازالت بعضها موجودة على أرض الواقع. ولا يُعتقد أن مسألة التسميات كـ : الأقليات هي خارج إطار هذا الخوف. ولا يظن المسيحيون أنهم في نهاية المطاف سيكونون مجرد معروضات متحفية ايزوتيكية لا غير، في المجتمعات التي عاشوا بها قبل وبعد الإسلام. فالتهجير القسري في بعض الأحيان، وفي بعض الدول في الشرق العربي أيضاً، يدخل ضمن هذا الإطار. في فلسطين مثلاً لعبت إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر على هذا الوتر فساهمت بشكل فعّال في تهجير المسيحيين القسري. وفي العراق كل الدلالات تُشير على أن الفرز المتوقع في العراق، دفع بعض الجهات محلية وخارجية لتهجير المسيحيين قسراً، ولم يكن يخطر على بال المسيحيين أي شيء يتعلق بالمكوِّنات الاثنية، والمذهبية، والدينية، وفرزها بحسب مناطق جغرافية، وقد أخذت معالمها تظهر على أرض الواقع.

ولا ننسى أن وراء هجرة بعض المسيحيين يأتي العامل الاقتصادي، فكل إنسان يريد أن يعيش بكرامة في وطنه، ولا تتوفر الكرامة إلا إذا وفّر الاقتصاد راحة وطمأنينة للإنسان، فهذا المثقف والمتعلم وحامل شهادات جامعية، يقع في صراع مع نفسه عندما لا يجد له مكاناً في المجتمع يستثمر فيه طاقاته ومواهبه من أجل عيش كريم، وهكذا التاجر والصناعي والعامل الذي لا يعرف إلى أين يتجه في عالم مضطرب اقتصادياً، وفي دولة تنتشر فيها البطالة المقنعة يومياً، كما أن التضخم الاقتصادي يتلاعب بمقدرات الناس.

وهنا اسمحوا لي أن أدخل في موضوع حساس جداً يرتبط أولاً بهجرة أعداد كبيرة من المسيحيين من المنطقة، وثانياً بالبقية الباقية منهم، وهو الشعور بـ : عدم الانتماء، هذه حالة غريبة جداً يعيشها المسيحي في أكثر من دولة في الشرق. من أنا ؟ ومن أكون ؟ ومن سيكون أولادي وأحفادي، في مجتمع يفقد فيه الإنسان معنى الانتماء الحقيقي لأرض الوطن ؟ ليتنا نعرف أن المواطنة هي سقف لكل المواطنين، وليس الاثنية ولا الثقافة ولا الدين ولا المذهب ولا الانتماء السياسي أو العشائري أو القبلي، نحن ننادي دائماً بالوحدة الوطنية والعيش المشترك، والمناداة تأتي من خلال الثقافة المشتركة التي بنيناها معاً بناءً على تجاربنا السابقة منذ الفتح العربي وحتى تاريخ طرد المستعمرين من بلادنا، خاصة عندما كان يدافع المسيحي إلى جانب أخيه المسلم في خندق واحد، من أجل كرامة الإنسان، وحرية واستقلال الوطن، هذا الشعور بالانتماء لأرض الوطن تضاءل ويتضاءل يوماً بعد يوم، ويزداد هذا الشعور عندما يحاسَب الإنسان على الهُوِّية الاثنية أو الثقافية أو الدينية.

ثم تطرق نيافته إلى الصفحة الأخيرة من كتاب سموه، وتوقف عند قوله : بأن الحقيقة هي أن المسيحيين العرب ليسوا أغراباً بأي شكل عن المجتمع الإسلامي في بلادهم، وأيضاً أن المسيحيين يخافون من موجات ما يُسمى بالأصولية الإسلامية التي اجتاحت عدداً من الدول العربية مؤخراً، وهنا أكَّد نيافته بأن صعود التيارات الدينية في الشرق الأوسط تبقى الإشكالية الأبرز في مجال الكتابة عن الحضور المسيحي في الشرق.