قداسة الحبر الأعظم سيدنا مار أغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق بارخمور

نيافة الكاردينال ماريو زيناري السفير البابوي بدمشق وأصحاب النيافة والسيادة والسماحة

السادة ممثلو محافظ حلب الأكرم

الرفاق ممثلو أمينا فرع المدينة والجامعة لحزب البعث العربي الاشتراكي

السادة المسئولون في الدولة والحزب وقيادات حلب المدنية والعسكرية والأمنية

الأحبار الأجلاء المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكي السرياني المقدس

الشيخ الدكتور محمود عكام رئيس لجان الفتوى في حلب وسائر المحافظات السورية

الدكتور رامي عبيد مدير أوقاف حلب

السادة مطارنة الكنائس في حلب وممثليهم

السادة أعضاء مجلس الشعب ومدراء مكاتب الجمعيات الخيرية والاغاثية

رؤساء وأعضاء النقابات والغرف

الآباء الكهنة والرهبان والراهبات

السادة الاعلاميون

الأهل والضيوف الأعزاء من كافة أرجاء سورية

آبائي وأخوتي وأبنائي في أبرشية حلب وتوابعها

 

محبة لكم وسلام بالرب يسوع:

قبل أي كلام يشرفنا حضوركم بيننا يا صاحب القداسة ومعكم الوفد المرافق لكم ومن بينهم أصحاب النيافة المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكي السرياني المقدس. نرحب بكم في هذه المدينة المباركة وفي مقر أبرشية حلب وتوابعها التاريخية العريقة، حيث جلست قامات روحية كنسية رفيعة منذ نفاذ المسيحية من أنطاكية إلى شمال سورية. ابتداء بمار سمعان القانوي أحد الاثني عشر، ومروراً بمار يعقوب ابن حلفى ويهوذا ابن يعقوب وطيمون. مَن جاهدوا بكل ما أتاهم الله من قوة حتى تحول جميع السكان جملة إلى المسيحية قبل انقضاء النصف الثاني من القرن الرابع. فأضحت حلب أبرشية هامة، بل أولى الأبرشيات الفردية الخاضعة مباشرة للكرسي البطريركي الأنطاكي. وكان لأول أساقفتها القديس أوسطاثاوس (337+) منزلة ممتازة بين سائر أساقفة سورية. فنُصِّب بعدها بطريركاً لأنطاكية عام 324 وترأس المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325. وخلفه أساقفة آخرون منهم مار ملاطيوس (381) الذي ترأس المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية، ومار أقاق (432) تلميذ مار ايليان الشيخ الناسك السرياني والرئيس العام على أديار سورية. ولا يسعفني الوقت لأسرد ما يليق عن الأربعين اسقفاً ونيف الذين توالوا على كرسي ابرشية حلب من أيام آقاق إلى يومنا هذا.

فأين أنا من كل أولئك ومن أين لي أنا الضعيف أن أجلس على هذا الكرسي المبارك،

أين أنا من مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري الذي أصبح لاحقاً مفرياناً للمشرق

أين أنا من مار سويريوس أفرام برصوم بطريرك أنطاكية وعلامة القرن العشرين

أين أنا من مار ديونيسيوس جرجس القس بهنام رجل الله والقامة الروحية الشامخة

أين أنا من مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم الشخصية الفذة الوطنية والاجتماعية والروحية

أين أنا من كل أولئك وغيرهم ممن دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه تاركين ورائهم إرثاً كنسياً سريانياً ثميناً. فحسبي أن أكون غاسلاً لأقدامهم وأقدام كثيرين ممن استشهدوا فداً للإيمان والأوطان.

نعم أيها الأحبة: لقد شرَّفني الله وأنعم علي حتى أُحصى واحداً من خدام هذا الشعب الطيب والمعطاء. راعياً لورثة أمجاد العظماء، وحافظاً لإرثهم وتراثهم السرياني المقدس. فهم بأجيالهم الأخيرة أبناء مدن وحواضر سريانية عريقة وضاربة جذورها في التاريخ، أتوا من ماردين والرها ومديات وطور عبدين ومعسرتي وديار بكر وصدد وغيرها، ووجدوا في هذه المدينة الطمأنينة والاستقرار، وانتقلوا بسرعة من واقعهم كنازحين ومهجَّرين، صائرين مواطنين صالحين ومعطائين. في مسيرتهم هذه قدَّر الله لهم إنساناً شهماً ومؤمناً هو الوجيه السرياني سليم بن أنطونيوس نعوم عازار الصددي، الذي كان قبلاً قد ناشد البطريرك السرياني الأرثوذكسي لإرسال كاهن يرعى القطيع الصغير الذي ثبت في انتمائه لكنيسته. ومن ثم اندفع بغيرة وحماس وبتشجيع من صديقه الحميم العلامة مار سويريوس أفرام برصوم، مطران سورية ولبنان، والبطريرك بعدئذ، لاستقبال النازحين في المقرات المؤقتة التي هيأها لإيواء العديد منهم في الأماكن التي كان يمتلكها في حلب، ولم يتوان عن تقديم المساعدات المادية للمحتاجين منهم. ومن ثم تبرع ببناء هذه الكاتدرائية المباركة على أرضه وعلى اسم القديس مار أفرام السرياني، شفيع صديقه الحميم، وحدث أن احتفل بطقس تقديسها مثلث الرحمات البطريرك القديس مار اغناطيوس الياس الثالث عام 1926. وأما الذين في شتاء 1924 تركوا ديارهم ورحلوا مرغمين عن موطن آبائهم القديسين، أحفاد أبجر الملك، وتلاميذ كنارة الروح القدس مار أفرام السرياني، أبناء أول إمارة في العالم تقبل تعاليم السيد المسيح، مدينة الرها المباركة، فقد حملوا معهم حضارة وتراث قل مثيلها، فلم يكن من أهالي حلب إلا أن استقبلوهم بترحاب وكان لمثلث الرحمات مار سويريوس أفرام برصوم دوراً كبيراً في مساعدتهم وإيوائهم. وأول ما فكروا به هو بناء الكنيسة والمدرسة، فكانت أولاً الكنيسة البشرية المؤمنة، ثم أتبعوها ببناء الكنيسة الخشبية ومن بعدها الحجرية، التي كرسها مثلث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس أفرام الأول برصوم على اسم القديس الشهيد مار جرجس، عام 1953.  

وتمر السنون وتنمو هذه الأبرشية بنعمة الرب وبسواعد أبنائها وغيرتهم الوقادة. وتنضم اللاذقية عروس الساحل السوري لها، وفيها الأمر اختلف تماماً. هناك حيث أمر الرب بالبركة. بركة لم شمل الرعية بهمة بعض أبناء الكنيسة المتواجدين منذ سنوات طوال في المدينة، العمل الذي كان لافتاً من حيث سرعة تنظيم الرعية. فتم تكليف أول مجلس ملي عام 2015 وبدأت معه اللجان والأخويات الكنسية لكل المراحل. كأنها كانت أرضاً عطشى وأتى عليها الطل، فأنبتت سريعاً خيراً كثيرا. ومن ثم أخذنا ببناء الكنيسة والمركز الروحي والاجتماعي المرفق لها، بتشجيع ودعم كبيرين من قداسة إمام أحبارنا سيدنا البطريرك مار أغناطيوس أفرام الثاني، وذلك على الأرض التي كان نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم قد سعى بكل جهده لامتلاكها لصالح الطائفة، واستطعنا قبل سنوات، بتوفيق من الرب وبهمة العزيز جان توكمة جي أبو بهيج، من إنهاء كافة الأمور المتعلقة بها.

أما الرقة وإدلب أرضا الخير والعطاء، فقد ذاق أهلها الأمرين عندما سقطتا بيد أعداء الحق والإنسانية. فشُرِّدوا ونَزَحوا إلى جميع المناطق السورية وعانوا ما عانوه. فلهم مني كل الحب والتقدير أينما يتواجدون اليوم. ويعز علي أنني لم أستطع زيارة ادلب والرقة والطبقة حتى اليوم لأسباب قاهرة وخارجة بالكامل عن ارادتي، إلا أن أبناءها المتواجدين حالياً في كل أرجاء سورية هم دين في رقبتي، وواجب عليّ رعايتهم وافتقادهم.

أجل أيها السادة، إنهم السريان أبناء هذه الأبرشية المباركة، أشداء في الأزمات وأقوياء أمام التحديات. تراهم حيناً نازحين ومسلوبي القوى، وفي اليوم التالي مستقرين، يبعثون الأرض وينشرون فيها الخير والأمل. شعب لم ولن يقوى عليه الموت والتشرد والظلم. يشهد لقيمه ومبادئه كهنتنا الأفاضل وشمامستنا الموقرين، العلمانيون في مجالس الرعايا ولجانها ووكلاء كنائسها، مدارسنا ومراكزنا الصحية، دور الطلبة والمسنين، معاهدنا التعليمية ومراكز الدعم النفسي والروحي، مكتب الإغاثة واللجان الخيرية وخدمة الأم تيريزا لرعاية المسنين، أخوياتنا كشافاتنا وجوقاتنا، كلها تعمل سوية كالبنيان المرصوص، الواحد للكل والكل للواحد. بخبراتهم المتراكمة وغيرتهم الوقادة، يشكلون حجز أساس داعم لأي إنسان قُدِّر له أن يكون راعياً لهذه الأبرشية.

فكيف يمكن لإنسان ورائه هذا الشعب وأمامه هذه الامكانات أن يخاف أو يتردد حينما يُدعى لحمل هذه المسئولية الثقيلة؟

في سفر الملوك الثاني، أحد أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس، نقرأ عن قصة اعتدنا سماعها في العهد الجديد، وهي قصة اشباع الجموع.

يقول الوحي الإلهي: “وجاء رجل … وأحضرَ لرجل الله (يقصد هنا أليشع تلميذ إيليا النبي) خبز باكورة (أي من أول الحصاد) عشرين رغيفاً من شعير… فقالَ: اعط الشعب ليأكلوا. فقال خادمه: ماذا؟ هل أجعل هذا أمام مئة رجل؟ فقال: أعط الشعب ليأكلوا، لأنه هكذا قال الرب: يأكلون ويفضل عنهم. فجعل أمامهم فأكلوا، وفضل عنهم حسب قول الرب” آمين.

أمامُنا هنا حدثٌ فريدٌ للغاية، هناك حيث يقف التسليم والإيمان جنباً إلى جنب مع الثقة والطاعة. والنتيجة فريدة ومذهلة.

ولا أذيع سراً إن قلت لكم أن واحدة من هذه العبارات استوقفتني وشعرت بأن الله يدعوني لأخذها شعاراً لخدمتي بينكم وهي: “أعط الشعب ليأكلوا، لأنه هكذا قال الرب: يأكلون ويفضل عنهم”. نعم أيها الأحبة: أشعر بها دعوةً سماوية مميزة، لا يحدها زمان ولا مكان. دعوة ليست لي فقط، بل لنا جميعاً، أولاً كرجال دين ولكن أيضاً لجميع المكرسين والعاملين في حقل الرب من علمانيين. فاحتياج الناس بكل أنواعه، الروحي منه والمادي، دائم ومستمر، لا بل يزداد في أيام تشبه أيامنا. حيث الخدام قليلون والحصاد كثير. كما أن الخبز قليل والمحتاجون كثيرون.

إنها إذاً دعوةٌ إلهية لنا جميعاً لكي نقدم أفضل ما لدينا (خبز الباكورة) من مواهب ونعم سماوية أعطانا إياها الله “فكل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار” (يعقوب 1: 17). نقدمها بكل تسليم وإيمان وثقة وطاعة، مهما كانت قليلة أو كثيرة، غير متواكلين ولا مهملين، غير منتظرين الواحد الآخر، بل مقدمين أنفسنا على تنوع مهماتنا أو خدماتنا في الكنيسة، إلى الشعب المحتاج للخبز الروحي والمادي والمتعطش للكلمة والخدمة، واثقين بأن الرب، ليس فقط سيبارك هذا القليل ويجعله كافياً لشبع الجميع، لا بل سيفضل عنهم أيضاً. هذه هي بركة الخدمة يا أحبتي.

وأنا كراع جديد للأبرشية، أمد يدي، كما مددتها دائماً، للجميع بدون استثناء. فهذه الكنيسة هي بيتكم وأنتم الكنيسة الحقيقية. أمدُّها لكل من هو أمين في الخدمة ومتواضع في القلب وثابت في الإيمان. حتى نسير سوية مسيرةَ عملٍ وجهاد، مسيرةً ملؤها المحبة والثقة. نهتم بالبقية الباقية من شعبنا ونعمل على تثبيته في أرض آبائه وأجداده. نطلب الضال ونعيده إلى بيت أبيه “ففي بيت الآب منازل كثيرة”. نهتم بالجيل الجديد الذي نشأ في جو الحرب على صور القتل والإرهاب فتهاوت أمامه القيم الإنسانية بأجلى صورها، ونحاول تعويض ما خسره روحياً ونفسياً وحتى مادياً.  

المهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة. مع الرب حتى إذا سرنا في وادي ظل الموت لا نخاف شيئاً ولا شراً. بل نثق بأنه يحيا فينا ويسير معنا. ولن نحتاج شيئاً ما دام هو معنا ونحن معه.

أخوتي وأبنائي في الوطن والاغتراب: أشكركم يا من ملكتموني على قلوبكم قبل التعبير بأصواتكم عن قبولكم لي كأخ وابن صغير بينهم. أدعو الله أن يوفقني في خدمتكم وأن يبارك في غلاتي لخيركم، حتى أقدم عنكم حساباً جيداً أمام الرب الديان العادل. أبثكم محبتي أينما كنتم وأدعو لكم بالخير أينما توجهتم. عشنا سوية أقسى الأيام وذقنا معاً مرارة الموت. خسرنا البعض شهداء وودعنا الكثير مهاجرين. إيماننا القوي بإلهنا القائم من بين الأموات ساعدنا كي نتغلب على مخاوفنا ونتجاوز عن آلامنا. فانطلقنا قبل سبع سنوات سوية في مسيرة روح وعمل، فأعدنا بناء ما هدمته الحرب وأطلقنا بعض المبادرات المجتمعية. أنجزنا الكثير وباقي أمامنا الكثير الكثير لننجزه. لن يختلف اليوم عن الأمس إلا بقوة اصراري وزيادة همتي لخدمتكم وافتقاد احتياجاتكم. تعلمت منكم الكثير في الصبر واحتمال الآلام، ومشيئة الله التي أرادت أن أختبر الألم في جسدي الضعيف، كانت لكي أشعر أكثر أفهم أعمق ما تمرون به. الدماء التي سالت مني يوم إصابتي عام 2016 كانت اختباراً حقيقياً لعلاقتنا والتي مُسحت بميرون المحبة والتفاني. دمتم بخير وصانكم صليب ربنا يسوع المسيح من كل ضرر وعوز.      

شهداء وطننا وكنيستنا الأحباء: بيير جبرائيل – أنطوان سعادة – روبير عكال – جورج بابي – د. جاك كورية – مها ديار بكرلي – دونا يعقوب – زارميك اوغلنيان – عبد المسيح غسالي – موريس كابوس – سعيد حداد – الطفل سعيد طحان – منيرفا الصبرة – أبجر عبدة – آمين آلو – فجر شمعون –  بسام جلوف… ينطبق عليكم قول الكتاب: وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَحِ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ وَمِنْ أَجْلِ الشَّهَادَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟» فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَاباً بِيضاً، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَاناً يَسِيراً أَيْضاً حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضاً، الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ”.  دماؤكم الزكية امتزجت مع دماء كثيرين من أبناء سورية، فرويتم ترابها وعمدتموها بالدم. وأضحت أجسادكم قرباناً مقدساً يقدم على مذبحها. صلوا من أجل هذا البلد وأهله الذين تألموا كثيراً وحان الوقت أن يستريحوا من أتعابهم.

سيدنا يوحنا، يا أيها الراعي الصالح، يا من على مثال معلمك، قدمت ذاتك على مذبح الوطن الجريح، قرباناً طاهراً نقياً. وكما كنت في حضورك مؤثراً، في غيابك صرت أكثر تأثيراً. فنعمّاً لك أينما كنت. لأنك كنت على قدر الإيمان والمسئولية. من جهتنا، كما صلينا من أجلك في السنوات العشر الماضية، سنظل نصلي، واثقين بأنك أيضاً تحيا معنا وتطلب من أجلنا. لم تغادر قلوبنا وطقوسنا البتة لكي تعود إليها. بالنسبة لنا أصبحتَ قضية حق وحقيقة. والقضايا المحقة لا تموت بمرور الزمن ولا تُهمَل بغياب أصحابها. بل على العكس. كلما مرت السنون، تزداد ألقاً وثباتاً ما دام وراؤها من يطالب بها ويرفع الصوت عالياً لبيانها.

فلتطمئن بأن أبنائك في حلب ما زالوا، كما علمتهم أن يكونوا، ثابتين على الإيمان والرجاء والمحبة. لم ولن ينسوا من انت وما قدمته من أجلهم ولأجل كثيرين آخرين. حتى جعلتهم يفخرون بأنهم سريان عندما يشار بالبنان إلى مطرانهم وأبيهم الروحي. حقاً، فإنك أنت فخر السريان وأميرهم وايقونتهم. فهنيئاً لك حريتك بالروح ولتنعم بمحبة الكثيرين لك ونحن منهم. وهنيئاً لنا لأنك كنت على مدى 43 عاماً مطراناً لهذه الأبرشية العريقة.

والآن أرجو منكم يا صاحب القداسة أن تعطونا الإذن والبركة، وبشكل خاص لكنائسنا في حلب، للاستمرار بذكر اسم سيدنا يوحنا في كل قداس إلهي على مذابح الأبرشية في تذكار الآباء الأحياء، مع اسم راعي الأبرشية. كما اعتدنا في السنوات الماضية. وهذا أقل ما يمكن تقديمه لسيدنا يوحنا الذي أحبنا وبذل نفسه من أجلنا جميعاً.  

قداسة سيدنا البطريرك: أيها الأب والراعي والمعلم: يعجز لساني عن التعبير عن مدى شكري وامتناني لكم من أجل كل المحبة التي بادلتموني والثقة التي أوليتموني مذ يوم أرسلتموني إلى حلب عام 2015، وحتى تشريفكم لي لأكون معاونكم في دمشق. هناك تعلمت منكم الكثير وكسبت من خبرتكم ما يعينني على حمل رسالة الخدمة ومواجهة تحدياتها. ثقتكم دين في رقبتي وسأعمل جهدي كي أتاجر حسناً بالوزنات التي أوكلني إياها الله بواسطتكم.

لقد أرسلكم الله لهذا الشعب ولهذا البلد في زمن صعب وقاس. وللحق أقول أن أمثالكم في الإخلاص والمحبة والإيمان بسورية أضحوا نادرين. فالمحبة ليست كلام ونظريات، بل تظهر حقيقتُها حينما تتجسد. المحبة هي الروح التي يجب أن تكسو كل ما نقوم به من أعمال، يسيرة كانت أم عظيمة، لأننا كما تقول الأم تيريزا: “في هذه الحياة لا نقدر أن نعمل أشياء عظيمة، نقدر أن نعمل أشياء صغيرة بمحبة عظيمة”. أجل أيها الأحبة: لقد قادت هذه المحبةُ العظيمة قداسَتَه للقيام بأشياء وأشياء في زمن صعب جداً. فهو كان قد قبلَ التحدي قبل ثمان سنوات ويربح الرهان يومياً. ورغم كل ما كيل ويكال له يومياً مما يندى له الجبين، إلا أنه يأبى الهزيمة ويمضي قدماً في تحقيق حلمه، الحلم بأن يكون للسريان في أرضهم ما يفخرون به ويخدم وطنهم ومجتمعهم. تشهد لذلك جامعة أنطاكية – ومعمل الدواء – دير الصليب والميتم ودار العجزة ودار الطالبات ومركز انطاكية لتنمية القدرات والروضة والمدرسة ودار البطريركية الجديد في حارة الزيتون.

وقبل كل ما ذكرتُ: ها هي دائرة خدمة الشبيبة والتنشئة المسيحية تقوم برعاية جيل كامل من الشباب السرياني في أنحاء العالم أجمع، وها هي دائرة الدراسات السريانية تقوم بكشف الستار عن تراث آبائنا السريان الميامين وتقدم خدمات جليلة للعلوم اللاهوتية المعاصرة، وها هي قناة سوبورو الفضائية تمارس دورها التبشيري والرعوي مستخدمة سلاح الكلمة عبر الفضاء الالكتروني، وإن نسينا فلن ننسى الهيئة الاغاثية والتنموية الأولى في كنيستنا، هيئة مار أفرام السرياني البطريركية للتنمية، والتي تمد يد العون لمؤسسات الدولة السورية للنهوض بما خربته الحرب وقوى الإرهاب والظلام دون أدنى تمييز بين مكونات الشعب السوري البطل وتؤمن فرص العمل للآلاف من أبناء سورية الصامدة.

وخلال الأعوام المنصرمة كان لحلب حصة كبيرة في قلبكم وفكركم يا صاحب القداسة. كيف لا وأنتم كنتم قد عشتم سنوات دعوتكم الأولى في هذه الأبرشية العامرة. وتربطكم بصاحب النيافة مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم ذكريات لا تمحى وعلاقة لا يفك وصلها. بصماتكم واضحة ودعمكم لنا بشقيه الروحي والمادي كبير، فكلمة شكراً لا تقدر أن توفيكم حقكم. وما نستطيع عمله هو أن نستمر بالصلاة من أجلكم حتى يمدكم الرب الإله بوافر الصحة والقوة لتتابعوا رسالتكم الإنسانية الجليلة وتحققوا كل أحلامكم بما هو خير للكنيسة وللوطن.

واسمحوا لي قداستكم أن أقدم لكم هذه الهدية عربون تقدير ومحبة من أبنائكم في أبرشية حلب طالبين منكم الصلاة من أجلنا وبارخمور.

سورية الحبيبة: يا منبت الأنبياء والمرسلين ومرقد الأخيار والملهَمين. مذ كُونتِ، أعطيتِ العالم دروساً لن تنس وكتبتِ في التاريخ صفحات لن تمحَ. كنتِ دائماً للحق معلماً ومبشراً وللحقيقة شاهدة وشهيدة. وحتى عندما أرسل إليكِ طواغيت العالم حشداً لا عد له من الإرهابيين، لم تتخلِّ عن رسالتك ولم تنسِ محبتك. أثق بأن أوان خلاصك قد اقترب. ولك منا العهد بأن نبق مخلصين لكِ. ويداً بيد مع قيادتنا الحكيمة للسيد الرئيس الدكتور بشار الأسد، وكل المخلصين معه، سننطلق لمسيرة إعادة البناء. هذه المسيرة قد تستغرق سنوات طوال وتكلف مليارات المليارات من الأموال، لكنها ستكون مسيرة مباركة لأنها مجبولة بعرق الكادحين المخلصين لكِ. وسيكتب التاريخ أن هذا الشعب لا يموت ولا يغير قيمه ومبادئه الروحية والأخلاقية مهما ألم به من مصاب.

وأنتِ يا حلب، لو تعلمين ماذا تعنين بالنسبة لي! فأنتِ المدينة التي عشتُ فيها أحلى سنوات شبابي أثناء دراستي الجامعية، وتركتِ في قلبي وحياتي أثراً لا يمحَ. فيكِ لأول مرة بدعوتي الكهنوتية شعرتُ، وعند قدمي آبائكِ تتلمذت، وفي كنائسكِ صليت وتعبدت. لا زالت ذكريات تلك الأيام ماثلة أمام عيني بكل تفاصيلها. فما الحب إلا للحبيب الأولِ. نعم أيها السادة: إنها حلب، هذه التي قال فيها الأخطل الصغير

لو ألف المجد سفراً عن مفاخره.. لراح يكتب في عنوانه حلبا

حلب هذه التي حوصرت أحياؤها، قُصفت شوارعها، قُسِّمت مناطقها، هُجِّر سكانها وسُرقت بيوتها ومعاملها، احتملت ما عانته بكل صبر وإيمان، كيف لا وشعبها معروف عنه كيف يستطيع أن ينهض من تحت الركام ليبن من جديد ما هدمته قوى الظلام. فألف تحية لأهل حلب وكل الاجلال والاكبار لشهدائها الذين سقطوا دفاعاً عنها وعن كل أراضي سورية الحبيبة.    

أخوتي أصحاب السيادة ورؤساء الكنائس في حلب: أحد أسلافي في رعاية أبرشية حلب وهو مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286) قال يوماً: “لما بلغت العشرين من عمري اضطرني البطريرك المعاصر /وهو البطريرك إغناطيوس الثالث داود (ت 1252م)/ إلى أن أتقلّد رئاسة الكهنوت، حينئذ ألجأتني الضرورة أن أجادل ذوي المعتقدات المخالفة من مسيحيين وغرباء، مجادلات مبنية على القياس المنطقي والاعتراضات. وبعد دراستي هذا الموضوع مدة كافية وتأملي فيه ملياً تأكّد لدي أن خصام المسيحيين بعضهم مع بعض لا يستند إلى حقيقة بل إلى ألفاظ واصطلاحات فقط… لذلك استأصلت البغضة من أعماق قلبي وأهملت الجدال العقائدي مع الناس”.

وأما من جهتي: فأشكر الله من أجلكم فرداً فرداً، وأفتخر بكل واحد منكم. لأني أعلم علم اليقين أنكم لا تألون جهداً إلا وتبذلونه في خدمة رعاياكم وخدمة أخوتكم في الإنسانية. تجمعني بكم علاقة خاصة ومميزة في المسيح الواحد. وأشعر بأن الله قد أعطاني نعمة الروح المسكونية، وزرعني من أجل ذلك في هذه المدينة المميزة مسيحياً في كل شيء، ومن أهم ما فيها على الصعيد الكنسي هو اجتماعنا الدوري الذي نتناقش فيه ما يخص كنائسنا ورعايانا بكل شفافية وانفتاح وقبول. شكرا لكم لأنكم قبلتموني أخاً بينكم وليوفقنا الرب جميعنا لخدمة عبيده.

الأحباء في هيئة مار أفرام السرياني البطريركية للتنمية: قدمتم خير مثال للمواطن السوري المحب لأخيه والمتضامن معه في أشد الظروف قسوة. تعملون كل جهدكم من أجل إيصال الدعم إلى مستحقيه دون أدنى تمييز إلا على أساس الاحتياج الحقيقي، فإمامكم هو يسوع المسيح الذي جال في الأرض يصنع خيراً. كان وما زال لي الشرف أن أكون مديراً عاماً لهذه المنظمة الكنسية الهامة وأن أخدم معكم ومع آلاف الموظفين والمتطوعين الذين يعملون على كامل مساحة الجغرافيا السورية، حتى في أشد المناطق خطورة وبعداً، أن نخدم سوية بلدنا بهذه الطريقة. ما لا يفهمه البعض هو أن سورية لن تنهض إلا على أكتاف أبنائها، أولئك الذين يكرسون حياتهم لهذه الغاية السامية. والهيئات الاغاثية جميعها، وخاصة الكنسية منها، تسد ثغرة في جدار الاحتياجات المتنامية والمتزايدة مع طول سنوات الحرب والحصار. ولولا هذا العمل الحيوي الذي تقوم به، لكنا رأينا الأوضاع أسوأ بدرجات مما هي سيئة الآن.         

الأهل الغوالي: أشكر الله أنكم معي اليوم وهذا من نعمه الجزيلة علي. أفتخر بكم جميعاً وأعتز أني تربيت في بيت يُقدِّم القيم والأخلاق على أي اعتبار آخر. أشكركم من أجل كل شيء وليبارككم الرب.   

ختاماً لكلمتي هذه، يليق بي أن أشكر السادة المطارنة الحاضرين بيننا والغائبين، نحن الذين دعانا الله سوية لنخدم رعيته التي افتداها بدمه، وما أروعها من شركة مقدسة مباركة. أشكر محبتكم لي أنا الصغير بينكم وأرجوكم أن تصلوا من أجلي دائماً حتى يبارك الرب في خدمتي ويكثر من ثماري. إني أذكركم دائماً على مذبح الله المقدس حيث تتجسد محبة الله لنا جميعاً. أنا ممتن لحضوركم بيننا اليوم:

نيافة الحبر الجليل مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان وطرابلس

نيافة الحبر الجليل مار تيموثاوس متى الخوري مطران حمص وحماة وطرطوس وتوابعها

نيافة الحبر الجليل مار موريس عمسيح مطران الجزيرة والفرات

نيافة الحبر مار أنثيموس جاك يعقوب النائب البطريركي لشؤون الشبيبة والمعتمد البطريركي في القدس والأردن

نيافة الحبر الجليل مار يعقوب باباوي النائب البطريركي لشؤون الرهبان ومدير اكليريكية مار أفرام السرياني بمعرة صيدنايا

نيافة الحبر الجليل مار جوزيف بالي السكرتير البطريركي

نيافة الحبر الجليل مار كيرلس بابي النائب البطريركي بدمشق

وأوجه هنا تحية إلى الروح الطاهرة لحارس الزنار مثلث الرحمات مار سلوانس بطرس النعمة. فكم كنت أتمنى لو كان حاضراً بيننا بالجسد. هو الذي احتضنني طوال فترة دراستي اللاهوتية وما بعدها. وكنا شركاء في حلمٍ، وإن لم يتحقق كاملاً كما خططنا له، إلا أنه كان دائماً الداعم الأول لي في قراراتي وأنشطتي طوال فترة إقامتي في بلدته صدد.

وكلمة شكر لا بد منها لكل من تجشم عناء السفر ليشاركنا الصلاة في هذا اليوم المبارك، وخاصة نيافة الحبر الجليل مار أرماش نالبنديان مطران الأرمن الأرثوذكس بدمشق ونيافة الكاردينال ماريو زيناري السفير البابوي بدمشق.

أشكر من أعماق قلبي الآباء الموقرين الذين أتوا من دول أخرى وهم الأحباء أبونا صليبا وأبونا أنطونيوس. والآباء الأحباء من أبرشية حمص وحماة وطرطوس العامرة.

أشكر الأعزاء الذين أتوا من لبنان ومن دمشق ومن حمص ومن فيروزة ومن صدد وسائر القرى الصددية: وأخص القامة المسيحية المشرقية الأستاذ غسان الشامي والعزيزين لؤي أوسي وماهر كورية.

أشكر الأفواج الكشفية من أبرشية حمص العامرة والذين شنفوا آذاننا بأنغامهم فرقهم النحاسية الشجية.

أشكر المعنيين في حلب وعلى رأسهم سيادة المحافظ وقائد الشرطة وفرع المرور الذين قدموا لنا كل التسهيلات اللوجستية لنجاح حفلنا هذا.

أشكر اهتمام وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة لنقل حفلنا هذا عبر المحيطات وهي: قناة سوبورو الفضائية – نور سات – الاعلام الوطني.

أشكر قدوم الأهل الأعزاء من حمص ومن حماة

وختاماً شكراً جزيلاً لكل أفراد الجنة المنظمة لاحتفالنا هذا وفريق العمل في المطرانية وحي السريان واللاذقية بدون استثناء. 

باركنا الرب جميعاً.

صلوا من أجلي ومن أجل الخدمة. بارخمور