كلمة نيافة راعي الأبرشية في السحور الرمضاني

خلال السحور الرمضاني الذي أقامته جمعية صندوق العافية في صالة شهبا روز مساء يوم السبت 14/ 8/ 2010، ألقى نيافة راعي الأبرشية مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الكلمة التالية :

أيها الإخوة…

        يسعدني جداً أن أكون  في هذا المساء مع هذه النُخبة المُحببة من وجوه حلب الشهباء، التي حضَرَتْ بدعوةٍ من مجلس إدارة صندوق العافية الخيري، هذا المجلس الذي عوّدنا كل سنة خلال شهر رمضان المبارك بإحياء حفل السحور الخيري، لسببين :

        أولاً، لكي يعرف المساهمون والمتبرعون الخيّرون، ما جرى ويجري في برنامج عمل إدارة صندوق العافية الخيري، خلال سنةٍ منصرمة، وهذا أمرٌ يتعلّق بالأمانة التي سلّمتها الجمعية العمومية لإدارة جمعية صندوق العافية الخيري، بل من حق كل مواطن يهمّه أن يعرف كيف تمتد يد الخير إلى أخينا الإنسان في مجتمعنا، الذي باتَ بحاجةٍ ماسة إلى أن تكون أيادي الخير، أكثر مما هي عليه اليوم، نظراً لظروفنا المعيشية المعروفة.      

        والسبب الثاني هو لكي يجود الخيّرون على صندوق جمعية العافية الخيري بالمساهمات والتبرعات السخية التي تُيسِّر للإدارة تَواصل عملها الإنساني والخيري في المجتمع. إن عيوننا يجب أن تكون مفتوحة، وآذاننا صاغية، إلى صرخات الألم، التي تأتي من كل مكان لتلبية احتياجات الناس. ويجب على كل مواطن مؤمن بالله والوطن والإنسان، أن يشعر بواجباته تجاه صندوق العافية الخيري، فيؤدي في هذا الشهر الفضيل، ما له وما عليه من واجباتٍ، ليساهم عن كثب في بناء ثقافة العيش مع الآخر.

أيها الإخوة…

        شهر رمضان الفضيل له ميزات في حياة الوطن، لأنه بمثابة الناقوس الذي يُدَقُّ في كل مكانٍ، لعدم نسيان ما علينا من واجبات، خاصةً في المجالات الإنسانية والخيرية والدينية. لقد كانت السماء دائماً مع العدالة الاجتماعية، والله تعالى في كل الكتب التي نقدسها نحن في دياناتنا، يدعونا دائماً إلى عمل الرحمة. واحدةٌ من التطويبات التي نردّدها نحن المسيحيين هي : طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ (متى 5 : 7). ومن هنا نرى أن جمعيات خيرية، ومؤسسات إنسانية، انتشرت في طول البلاد وعرضها، من أجل تحقيق هذه العدالة الاجتماعية. وفي الإسلام الزَكَـاة، التي معناها: ما تُقدِّمُه من مالِكَ لِتُطَهِّرَهُ، كانت باباً واسعاً لتجسيد معاني الرحمة في المجتمع.

        ونشكر الله بأن حكومتنا الرشيدة بتوجيهات قائد البلاد الدكتور بشار الأسد، ومن خلال وزارة التأمينات الاجتماعية، لم تتوانَ عن تقديم الخدمات اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، بين كل المواطنين دون تمييزٍ في أديانهم أو مذاهبهم أو انتماءاتهم.

        لهذا كمواطنٍ مؤمنٍ، أتوجّه بالشكر إلى إدارة صندوق العافية الخيري، لأنها في الفترة القصيرة من عمرها بعد التأسيس، استطاعت أن تُدخِل الفرح والسعادة إلى قلوب الكثيرين من إخوتنا وأخواتنا المحتاجين. وفي الوقت ذاته أهنّئ كل من يشعر بأن رمضان كريم بكل أبعاده، وها هو يدعوه لكي يكون مستعداً بكامل وعيه ليساهم في عمل الخير.

أيها الإخوة…

        أريد أن ألفت نظركم أنه في هذا الشهر الفضيل، لا بدّ لنا أن نعرف ماذا يدور في العالم، وما هي أهم التحديات التي تؤدي إلى تأزّم في العلاقات بين الأديان من جهة، وبين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، ونشكر الله أن سورية رئيساً، وحكومةً، ومواطنين، تعيش أجواء الصفاء والأخوّة، التي نعتبرها جزءاً لا يتجزّأ من ثقافتنا المبنية على التعاليم المقدسة. بل نقولها بكل فخرٍ واعتزاز، بأن سورية هي الأنموذج الحي للوحدة الوطنية، والعيش المشترك، والإخاء الديني.

        اليوم يتحدّث العالم عن : الأديان… نظراتٍ متبادلة، أي كيف يفكّر أصحاب كل دين في الدين الآخر. لقد علّمتنا التجارب بأن التعددية والتنوّع في مجتمعاتنا، هما من أهم الأسس للغنى الروحي في تراثاتنا وانتماءاتنا وأدياننا ومذاهبنا ولغاتنا ورؤانا، لا يمكن أن يعيش المجتمع على ركيزةٍ واحدة، ويتجاهل الركائز الأخرى، وإيماننا الإبراهيمي هو الذي وسّع آفاق نظرتنا تجاه بعضنا بعضاً. مع كل هذا نرى أن موجات الكراهية، والحقد، وإلغاء الواحد للآخر، وعدم رؤية وقبول الواحد للآخر، بعينٍ صائبة تنمو في أكثر من جهة في العالم، خاصةً وأن أبواق الدعاية المشبوهة في الغرب، تريد أن تشوّه صورتنا الحقيقية. فبعض الجهات المغرضة تتجاهل صورة العربي المسلم والمسيحي، التي ترسّخت في مفهوم العيش المشترك. فهذه المجتمعات الغربية من وقتٍ إلى آخر، تريد أن تبيّن بأن الإسلام لا يستطيع العيش مع حضارة أخرى، أو أن يتفاعل مع الحداثة.

        هذا مشروع يتماشى مع المقاربات السياسية المختلفة، التي يستغلّها بعض الساسة في الغرب، لكي يعمّقوا في وجهة الخلاف بين المسلمين والمسيحيين.

        فشهر رمضان الفضيل يدعونا لكي نُعيد النظر في مواقف بعض الجهلة، الذين يقودون الخطاب الديني في المسيحية والإسلام. نحن المؤمنين بالله الواحد الأحد، دائماً نردد بأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله. والمسيحية كما تعرفون، تُعلِنُ بأن الله لم يكتفِ بخلق الإنسان مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقه على صورته، وأعطاه شركة في قوة كلمته، حتى يستطيع بطريقة ما أن يبقى في سعادةٍ ويحيا الحياة الحقيقية.

وإذا عدنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أن الإنسان في مفهوم الإسلام هو : خليفة الله على الأرض، والخِلافة تعني أعلى مراتب التكريم الإلهي للإنسان. ولهذا تماماً، كما في المسيحية كذلك يعلن الإسلام أن الله خلق الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين/4)، وصوّره في أحسن صوره ” وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ” ( التغابن/3)، ولقد فضّل الله الإنسان على كثير ممن خلق تفضيلاً ” وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ” (الإسراء/70). فضّله حتى على الملائكة، وأودعه بعض مفاتيح المعرفة. فكل هذا يعني أن المشترك بين المسيحية والإسلام في النظرة إلى الإنسان هو واحد.

        إذا كان إيماننا واحداً بأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، وجعله خليفة على الأرض، لماذا هذا الواحد يجرح صورة الآخر؟ ولماذا لا نتفّق بأن تعاليمنا المشتركة، تدعونا للعيش معاً في السرّاء والضرّاء. فدائماً كان المسلم إلى جانب المسيحي يعمل من أجل تواصل الحضارة ونمو ثقافة العيش المشترك.          أهنّئكم بشهر رمضان الكريم، وأتمنّى لكم كل سعادةٍ، وللوطن العزيز النصرَ الدائم.