مداخلة مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم بعنوان: هجرة المسيحيين من الشرق .. والمسيرة المسكونية .. والحوار مع المسلمين

         بادئ ذي بدء، أردّد مع القديس بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس:

مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزيةٍ, الذي يعزّينا في كل ضيقتنا حتى نستطيع أن نعزّي الذين هم في كل ضيقةٍ بالتعزية التي نتعزّى نحن بها من الله. لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا , كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً ” (2 كورنثوس1 : 3 ـ 5)

         ويشرفني في هذا المقام الرفيع أن أقدّم تحيات، وتقدير، ومحبة قداسة رئيس كنيستنا الأعلى مار اغناطيوس زكا الأول عيواص بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس أولاً إلى الحبر الروماني الأب الأقدس قداسة البابا بندكتوس السادس عشر؛ ثم إلى أصحاب النيافة، والغبطة، والسيادة : الكرادلة، والبطاركة، ورؤساء الأساقفة والأساقفة الكليّ الوقار؛  وجميع المشاركين في سينودس الأساقفة ــ الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط؛ مع تمنيات قداسته بأن هذا السينودس المتميز بالحضور، والمكان، والزمان، والشعار: شركة وشهادة، سيكون مثمراً لكل المسيحيين بكل الأبعاد الروحية, والدينية, والاجتماعية, محلياً وإقليمياً وعالمياً.

 صاحب القداسة

        كما لاقت الدعوة إلى الجمعية الخاصة بالشرق الأوسط لسينودس الأساقفة صدىً عميقاً في نفوس أبناء الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط, هكذا أيضا أثّرت في نفوس أبناء كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية المنتشرة حتى يومنا هذا في كل بلدان الشرق العربي وتركيا، ولها حضورٌ في كل القارات بسبب الهجرة القسرية، التي دفعت مئات الآلاف منهم ليُـقتلعوا من جذورهم, ويضحّوا بتاريخهم العميق والطويل في العطاء، كما بتراثهم الغنيّ والمتعدد, فقط لينجوا بأنفسهم للحفاظ على إيمان آبائهم وعقيدة كنيستهم, وذلك بعد خبرة أليمة مع الاضطهادات المتعددة والمتنوعة, وذبح على الهوية، خاصةً في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, حيث مازالت هذه الأحداث المأساوية محفورة في ذاكرة الأبناء والأحفاد, كما أنها مكتوبةٌ في أرشيف الكنيسة الذي يشير إلى عددٍ هائلٍ من الشهداء الأبرار الذين أصبحت دماؤهم بذاراً للإيمان.

        إن أبناء كنيستي الأنطاكية السريانية ليسوا بعيدين عن هدف سينودس الأساقفة، خاصةً من جهة تثبيت وتقوية المؤمنين في هويتهم المسيحية بواسطة كلمة الله والأسرار, وأيضا من حيث إحياء الشراكة الكنسية بين كل الكنائس رغم أن وحدتنا في الإيمان ولئن كانت بعد غير متكاملةٍ،  ولكنها تؤهـِّــلنا لأن نتطلّع إلى التعاون بين الكنائس في مجال الخدمة الرعوية، سيّما في الظروف التي نعيشها اليوم، سواء بسبب تشتّت المؤمنين في أنحاء العالم، أو بسبب عدم الاستقرار في هذه الأيام العسيرة.

 اسمحوا لي أن أتوقف عند ثلاث نقاط وهي:

أولاً ـ التحديات التي تواجه المسيحيين بحسب بنود ورقة العمل 32 ـ 42

        إننا نعيش في مناخٍ واحدٍ من الصراعات السياسية في المنطقة، والحرية الدينية، وحرية الضمير، والمسيحيون وتطور الإسلام المعاصر, ولكن لا أرى بأن بند الهجرة قد أخذ حيّزاً كبيراً في ورقة العمل، ولا في العرض الذي قدّمه غبطة الأنبا أنطونيوس نجيب.

قداسة البابا

        كل الكنائس المسيحية بمختلف التقاليد أرثوذكسيةً كانت أم كاثوليكيةً أو إنجيليةً، تعاني من هذه الآفة الفتاكة. ولكن رغم كل النداءات والجهود المبذولة من قبل كنائس المنطقة, فالهجرة مستمرةٌ بعنفٍ في أكثر الأوقات, وتكاد تقضي على البقية الباقية من المسيحيين المشرقيين.

        هذا النزيف يتواصل في بعض الدول بشكلٍ سريعٍ جداً مثل: العراق في السنوات الأخيرة. وفي دول أخرى أقل سرعةً مثل: لبنان وسورية والأراضي المقدسة, ولكن النتيجة في الحالتين هي واحدة, إذ أن هنالك غياباً لأبرشياتٍ بكاملها, كما حصل في تركيا بعد العقد الثاني من القرن الماضي, والكنائس, والرعايا, والمؤسسات الكنسية, والمدارس. وبالجملة ضعف الحضور المسيحي الفعال يسيطر على الموقف، ويضعف الكنيسة بكل مقاماتها، ونشاطاتها، وحركاتها.

         سأضرب لكم مثلاً : قبل فترة قصيرة وقع بين يدي مخطوطٌ إحصائي لكنيستي الأنطاكية السريانية في جنوب شرقي تركيا لعام /1821/، وجدت أن عدد القرى الصغيرة والكبيرة المسيحية في هذه السنة /1821/ كان حوالي /600/ قرية. بقي منها في الوقت الحاضر أقل من عشرة قرى .

        فالسؤال هو : أين هم المؤمنون، والكنائس، والأديرة، والمدارس، والمؤسسات الدينية التي كانت تحتضنها هذه  الـ /600/ قرية؟؟ الله أعلم..

        هذا ما حدث في إيران مؤخراً، وما يحدث اليوم في العراق، وفي أماكن أخرى في المنطقة. هل ننتظر إلى أن يكون غيابٌ كليٌّ للحضور رويداً رويداً ثم نبكي على الأطلال؟؟

        اقترح أن يعقد مؤتمرٌ خاصٌ بهجرة المسيحيين في الشرق الأوسط، وهم غير المهاجرين للعمالة، كما يحدث مع بعضهم الذين يذهبون إلى الخليج العربي. المهاجرون المسيحيون الشرقيون يذهبون إلى بلاد الله الواسعة ولا يعودون، علماً أننا بدأنا نسمع من جهاتٍ مسؤولةٍ بطردٍ جماعيٍّ للمهاجرين الشرق أوسطيين مستقبلاً.

        وفي هذا المؤتمر المقترح توضع النقاط على الحروف، وتصدر توصياتٌ واقتراحاتٌ تضمن الحضور المسيحي في الشرق الأوسط إلى أطول مدة ممكنة.

ثانياً ـ المسيرة المسكونية

        كنت أعتقد بأنَّ الشرح التاريخي لحالة انقسامنا نحن المسيحيين سيكون حافزاً قوياً، ليس فقط لوضع الإصبع على الجرح، وإنما لجرأةٍ مسيحيةٍ مصحوبةٍ بقوة الروح القدس.

        تتحدث ورقة العمل عن انقسام المسيحيين، وتضعه أمام ثلاث تحديات؛ أولاً : كسر إرادة السيد المسيح، وثانياً: عثرة للعالم، وثالثاً: عائق أمام إعلان الإنجيل والشهادة.

        ماذا ننتظر أيها الآباء الأفاضل، أن نبقى أمام تحدي إرادة السيد المسيح، ونكون عثرةً للعالم، ويكون انقسامنا على ذاتنا عائقاً أمام الإنجيل والشهادة؟ هل هذا هو المطلوب؟ أم أن يتحرك الروح القدس فينا، فنكسر الحواجز، ونحطم أصنام الأنانية، والكبرياء، والتعالي، ونعيد السيد المسيح إلى كنائسنا، كما كان قبل عهد الانقسامات.

         لقد شاركَت الكنائس الأرثوذكسية بالحوارات الرسمية وغير الرسمية مع الكنيسة الكاثوليكية، وبخاصةٍ من خلال مؤسسة برو أورينتي التي قرّبت الكثير من وجهات النظر بيننا.  ولكي أكون صريحاً وواضحا  في كلامي، أؤكد أن إيجاد صيغةٍ جديدةٍ لممارسة الأولية البابوية في الكنيسة هو ما تصبو إليه كل الكنائس بعد حواراتها الناجحة. مثلاً، نحن في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية خطَونا خطوةً كبيرةً مع الكنيسة الكاثوليكية سنة /1984/.

        فبعد أن أكد البيان المشترك بين البابا بولس السادس والبطريرك يعقوب الثالث سنة /1971/ أنه لا يوجد خلافٌ في الإيمان المتعلق بسر كلمة الله المتجسد، وقد  شجّعا الإكليروس والمؤمنين على المزيد من بذل الجهود في إزالة العراقيل التي لا تزال تحول دون الشركة الكاملة بينهما.

        بعد هذا البيان بثلاث عشرة سنةٍ، أي سنة /1984/، أذن البابا يوحنا بولس الثاني والبطريرك مار اغناطيوس زكا الأول عيواص لمؤمني الكنيستين أن يطلبوا أسرار التوبة، والافخارستيا، ومسحة المرضى من الكهنة المعتَمَدين في إحدى الكنيستين الشقيقتين عندما تدعو الحاجة لذلك. إذاً، لم يبقَ إلا سر الافخارستيا المقدس الذي هو التعبير الرئيسي للوحدة المسيحية بين المؤمنين والأساقفة والكهنة.

        ويقول البيان : ” لا يمكن بعد أن نحتفل معاً بهذا السر، لأن الاحتفال الجماعي يفترض التماثل التام في الإيمان. وهذا التماثل التام لم يتم بعد بيننا, وذلك لأن بعض القضايا ما تزال معلقةً، ويعوزها الحل فيما يخصّ مشيئة الرب في كنيسته. وأيضا النتائج العقائدية والتشريعية في التقاليد الخاصة في الكنيستين اللتين عاشتا منفصلتين مدةً طويلةً من الزمن “.

         وإذا ابتعدنا عن تفاصيل أخرى في مجال الوحدة المسيحية، نرى أن العائق الأهم في طريق إعادة الشركة بين الكنائس هو الأولية الباباوية.

        فأطرح هذا السؤال أمام قداسة البابا الحبر الروماني, وأمام هذا السينودس، هل يمكن الفصل بين الشراكة في الإيمان والسلطة. أي أكون أنا الأرثوذكسي في شركة بالإيمان مع الكنيسة الكاثوليكية دون أن أكون تحت سلطة البابا الروماني ؟

ثالثاً وأخيراً ـ العلاقات مع المسلمين

        إن البنود 95 ـ 99 من ورقة العمل تؤكد بأن الكنيسة تنظر إلى المسلمين بتقدير كبير، وفي نظرها أنهم يعبدون الله الواحد الأحد الحي القيّوم الرحمن القدير.. إلخ. وقد اجتهدت الكنيسة الكاثوليكية أكثر من بقية الكنائس في حوارها مع المسلمين، خاصةً زيارات الباباوات إلى المساجد، منها: زيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر للمسجد الأزرق في استنبول ـ تركيا في30/تشرين الثاني/2006، ولمسجد الحسين بن طلال في عمّان ـ الأردن في 11/أيار/2009، وكذلك الزيارة التاريخية التي قام بها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في 5/أيار/2001 للجامع الأموي بدمشق، كلها كانت دلالات على أن الكنيسة الكاثوليكية تعمل للتقارب بينها وبين المسلمين. وهنا لابد من الإشارة إلى الدور الذي لعبَتهُ، وما زالت تلعبُه، جماعة سانت ايجيديو التي تعمل بروح أسيزى من عام /1986/ للتقارب بين الأديان عامةً، وبين المسيحيين والمسلمين بصورةٍ خاصةٍ.

        هكذا أيضاً الكنائس المسيحية الأخرى لها تجارب في حوار يوميّ، أو حوار العمل مع المسلمين. نحن في سوريا، وفى كل مؤسساتنا التربوية، والصحية، والاجتماعية نرى بيننا عدداً كبيراً من إخوتنا المسلمين. إذاً، أين تكمن المشكلة التي لا أراها في ورقة العمل ؟؟ إننا أمام كمٍّ هائلٍ من الجهل المطبق عند بعض المسلمين، الذين من وقتٍ إلى آخر يزرعون الفتن، والقلاقل، والاضطرابات بين المسلمين والمسيحيين. وكلما تنامى الجهل كلما زادت نقمة بعض المسلمين على المسيحيين. نحن نقول، والتاريخ يشهد لنا بأننا من سكان الأوطان الأصليين. نحن استقبلنا الإسلام في القرن السابع للميلاد بصدرٍ منفتحٍ وتعاونّـا مع المسلمين من أجل القضاء على أعدائهم الفرس. ولكن ماذا كانت النتيجة: انحسار في الكم، والنوع، والإمكانات، والجغرافيا, حتى أخذنا الخوف من أن تكون أيامنا نهاية المسيحية في الشرق الأوسط.

        هل أخطأنا في إيجاد الحلول لتمكين وتعزيز دورنا المسيحي في المنطقة ؟ هل كانت المعالجة إلى تاريخ اليوم غير نافعةٍ، وغير مجديةٍ لاقتلاع الخوف من قلوب المسيحيين, الذين يحتفظون في الذاكرة مشاهد مأساويةٍ لمذابح ومجازر عرفتها المنطقة أكثر من مرةٍ في القرنين الماضيين, فلحركةٍ بسيطةٍ تظهر هنا وهناك, يشدون الرحيل, ويتركون كلّ شيءٍ وراءهم ويهاجرون ؟

        أعتقد أننا قصّرنا في وصف الحالة التي نعيش فيها وصفاً دقيقاً. فالجهل يزداد، وعدد الجهلة يكبر, والأصولية تتنامى في كل مكان, والعلمنة أصبحت مرفوضةً، لا بل منبوذةً عند المسلمين، ولا يقيمون وزناً للمواطنة التي هي الحل في ترسيخ مفهوم العدالة والمساواة من جهة، وعدم الولوج في مساوئ الاصطلاحات المقرفة، مثل : الأغلبية أو الأكثرية والأقلية من جهة أخرى. الأخطر من كل ذلك أن لا أحد يستطيع أن يسيطر على الخطاب الديني الذي بسبب جهل بعض الخطباء، تزرع خطاباتهم الدينية الفتن والانقسامات بين المسلمين والمسيحيين، الذين هم أبناء الوطن الواحد, ويجب أن يجمعهم سقف المواطنة من حيث الحقوق والواجبات.

         أقترح أن نعيد النظر في علاقاتنا مع المسلمين من جهة فَهم كُنه الديانة الإسلامية, ومعرفة إمكانية نشر الفكر التنويري بين المسلمين, ومساعدة الجهات المعتدلة بين العلماء، ورجال الدين، والباحثين، وحتى الساسة، والمسؤولين في الدول لتخفيف وطأة الجهل، خاصةً بين خطباء المساجد؛ ومن ناحيةٍ أخرى يجب على الكنائس المسيحية أن تضع برنامج عملٍ جديدٍ تركّز فيه على ثقافة الحوار من جهة, وتضع حداً للتبشير الإسلامي بين المسيحيين عن طريق العمالة, والمساعدات المادية, والزواج المختلط من جهة أخرى.

صاحب القداسة..

أحب أن أختم مداخلتي باقتراحين.

        الأول : ربما تكرر أكثر من مرة في هذا السينودس على لسان بعض الآباء, ولكن أرى أن هذا هو المكان والزمان المناسبين لطرحه أولاً, ولدراسةٍ معمقةٍ وسريعةٍ لتحقيقه ثانياً. إنه مطلبٌ عام يتداوله كل المسيحيين في الشرق الأوسط، وهو إيجاد حلٍّ لتوحيد زمن عيد الفصحٍ. لقد تشوّق المسيحيون في أن يروا وحدتهم من خلال هذا الرمز.

        فهل يكون قرار توحيد عيد الفصح من هذا السينودس الموقر ؟؟ وغبطة البطريرك غريغوريوس لحام أعلن أكثر من مرةٍ, بل كان على وشك أن يحقق حلم كل كنائس الشرق الأوسط بتوحيد عيد الفصح. هذه الخطوة قد تكون بداية الخطوات نحو الوحدة المسيحية المنشودة.

         الثاني : كنائسنا هي متجذّرة في الاضطهاد، ونحن في الشرق أبناء الشهداء. هنا لا ننسى شهداء القرنين التاسع عشر والعشرين الذين كانوا ضحايا المجازر اللاإنسانية، أو ما نسميه نحن السريان بالسيفو.

        اقتراحي هو أن تتبنوا قداستكم فكرة عيدٍ موحدٍ للشهداء المسيحيين عالمياً, وهذا لا يحتاج إلا إلى اتفاق مع الكنائس المسيحية من أجل تحديد يوم يكون عيداً للشهداء في كل مكان. وهكذا نكون قد خطونا خطوةً جديدةً نحو الوحدة المسيحية، وفي الوقت ذاته نخلد ذكرى شهدائنا الأبرار سنوياً.

         أتمنى لهذا السينودس كل النجاح.