الكتاب المقدس

بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص

تدوين الوحي الإلهي:
إن الكتاب المقدس، الذي بين أيدينا، هو كلام اللّه الحي، الذي أنزله تعالى على ألسنة أناس قديسين، اختارهم ليكونوا وسطاء بينه وبين البشر، فتلقّنوا الوحي منه، وبلّغوه البشر. كما أمرهم أيضاً بأن يدوّنوه في كتاب، ليكون مناراً للهدى، ليس لجيلهم فقط، بل أيضاً لسائر الأجيال والدهور. وفي هذا الصدد كتب الرسول بولس إلى تلميذه تيموثاوس قائلاً: «وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة… كل الكتاب هو موحى به من اللّه ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البّر» (2تي3: 15و16).

ومن المسلَّم به أن أول مَنْ أمره اللّه بتدوين الوحي الإلهي هو النبي موسى الذي عاش قبل الميلاد بنحو ألف وخمسمائة سنة، وكلّمه اللّه فماً لفمٍ (خر19: 14ـ19). وعلى أثر المعجزات الباهرة التي عملها اللّه لخلاص شعب النظام القديم، إذ أطعمهم خبز الملائكة، المنّ النازل من السماء، وأرواهم من ماء فجّره من صخرة، كان تعالى قد أمر موسى قائلاً: «اكتب هذا تذكاراً في الكتاب»(خر17: 14). وجاء في سفر التثنية ما يأتي: «فعندما كمّل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذه ودعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم»(تث21: 24ـ26).

وحدة الكتاب المقدس:
اشترك بكتابة أسفار الكتاب المقدس، أكثر من أربعين شخصاً، يمثلون نواحي شتى في الحياة، فقد عاشوا في أماكن مختلفة، وفترات زمنية متباينة، فالفترة الزمنية الممتدة ما بين كتابة السفر الأول والسفر الأخير من الكتاب، تقارب الألف وخمسمائة سنة. كما قد تفاوتت درجات ثقافة الكتّاب، ورتبهم الاجتماعية والدينية. وانعكس كل ذلك على أساليب كتاباتهم، ولكنهم خضعوا جميعاً للوحي الإلهي الذي مصدره اللّه تعالى، ولذلك لما جمعت أسفار الكتاب المقدس، بإرشاد الروح القدس، جاءت متكاملة متسلسلة، على الرغم من تعدّدها وتنوع مواضيعها، وكوّنت كتاباً واحداً مقدّساً، بوحدة عجيبة فريدة، وغاية واحدة، هي إعلان اللّه ذاته الإلهية للبشر، وتحديد علاقته بهم ووعده إياهم بإرسال المخلص، وإتمام الوعد الإلهي بتجسد الإله الكلمة الرب يسوع المسيح الذي فدى البشرية بإرهاق دمه الثمين، وهو محور الكتاب المقدس من ألفه إلى يائه، ومركز الدائرة فيه، الأمر الذي جعل الرسول يوحنا أن يختم إنجيله بقوله: «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه»(يو20: 31).

الكتاب المقدس ينطوي على كلام الله:
يقيم الكتاب المقدس الدليل الناصع على أنه موحى به من الله، فقد صرّح كتّابه بأن ما دوّنوه إنما هو كلام اللّه تعالى الذي أنزله على ألسنتهم وبهذا الصدد جاء في سفر الخروج ما يأتي: «فكتب موسى جميع أقوال الرب»(خر24: 4) ويقول النبي إشعيا: «اسمعي أيتها السموات، واصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم»(إش1: 1و2) ويقول النبي إرميا: «كانت كلمة الرب إليّ قائلاً، قال الرب لي»(إر1: 4و7) و «هكذا تكلّم الرب… قائلاً اكتب كل الكلام الذي تكلّمتُ به إليك بسفرٍ»(إر30: 2) وجاء في سفر حزقيال النبي ما يأتي: «وصار كلام الرب إلى حزقيال، وكانت عليه يد الرب»(حز1: 3) والرسول بولس يقول: «نشكر اللّه بلا انقطاع لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من اللّه قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة كلمة اللّه»(1تس2: 13). «وأعرّفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به أنه ليس بحسب إنسان لأني لم أقبله من عند إنسان ولا عُلِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح» (غلا1: 11و12).

أمانة كتّاب الكتاب:
لا بد من أن نذكر ههنا، إن كتّاب الأسفار المقدّسة، لم يتمكنوا أغلب الأحيان من إدراك الحقائق الإلهية والعقائد السمحة التي أوحاها اللّه في قلوبهم، ومع ذلك فقد أودعوها أسفارهم بأمانة تامة، إذ كتبوا ما أمرهم اللّه أن يدوِّنوه، دون أي اعتراض أو احتجاج، وبهذا الموضوع يقول الرسول بطرس: «نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس، الخلاص الذي فتّش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبّأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أيُّ وقتٍ أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين أُعلِن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أُخبِرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشّروكم في الروح القدس المرسل من السماء»(1بط1: 9ــ12).

تحقيق النبوات التي يبرهن على صدق الكتاب:
ومما يبرهن على صدق الكتاب المقدس، وأنه موحى به من الله، محتوياته، فهو ينطوي على نبوات صادقة، وحقائق إلهية سامية، لا يمكن أن تكون من إنتاج بشر. فأغلب النبوات المدونة في أسفار العهد القديم قد تحققت بعد مرور قرون عديدة على إعلانها، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، النبوات التي قيلت عن مجيء المخلص الرب يسوع المسيح: فمن ميلاده بالجسد من عذراء تنبّأ النبي إشعياء قائلاً: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آيةً. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) وتنبّأ النبي ميخا أنه يولد في بيت لحم أفراثة (مي5: 2) كما حدد دانيال زمن مجيئه إلى العالم وأنه يموت في سنة 482 من خروج أمر ملك فارس لبناء المدينة (9: 25و26) وحددت النبوات أن موته يكون صلباً، أي بثقب يديه ورجليه(مز22: 16) وإن صالبيه يقتسمون ثيابه بينهم وعلى لباسه يقترعون(مز22: 18) وإن صلبه يكون بين آثمين(إش53: 12) وإن عظماً لا يُكسَر منه، وإنه يطعن في جنبه(عد9: 12 وزك12: 10) وإنه يقوم من بين الأموات (مز68: 1) في اليوم الثالث (يو1: 17و2: 10ومت12: 10) وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الله (مز110: 1). وقد تنبّأ الرب يسوع نفسه نبوات عديدة نذكر منها نبوته على خراب المدينة المقدسة سنة 70م.

ولأهمية النبوات كبرهان على صدق الكتاب قال الرسول بطرس: «وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلق كوكب الصبح في قلوبكم»(1بط1: 19).

فكل هذه النبوات التي ذكرناها، التي تحققت بحذافيرها في أوانها، لدليل ناصع قاطع على أن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا هو كتاب الله.

سمو تعليم الكتاب المقدس وتأثيره الروحي:
يتّضح صدق الكتاب المقدس أيضاً من سمو تعاليمه الأدبية والروحية، وتأثيره الخفي في حياة الأفراد والجماعات. فقد تغيّرت حياة ملايين من البشر ونالوا الخلاص بعد قبولهم إياه دستوراً لهم في الحياة، وإيمانهم بأنه رسالة اللّه تعالى التي أوحاها على لسان عبيده لتكون للبشر دستوراً للإيمان والأعمال. فبعد أن كانوا خطاةً ضالين عادوا إلى اللّه تائبين سالكين الطريق المستقيم، مؤمنين بالرب يسوع صائرين قديسين. كما أن مجتمعات عديدة، اتخذت الكتاب المقدس أساساً لقوانينها وشرائعها ونظمها، فسادت العدالة وتوطّد السلام في جوانبها. فالكتاب المقدس نور لسبيل الأفراد والأمم، وهو خير مرشد إلى الطريق والحق والحياة، وبهذا الصدد كتب لوقا في سفر أعمال الرسل قائلاً: «كانت كلمة اللّه تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً، في أورشليم. وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان» (أع6: 7) «وكان اسم الرب يسوع يتعظم، وكان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع… هكذا كانت كلمة اللّه تنمو وتقوى بشدة» (أع19: 17ــ20).

أسفار الكتاب المقدس:
يتكون الكتاب المقدس من جزئين، يسمى الجزء الأول بالعهد القديم، والجزء الثاني بالعهد الجديد. وتعني كلمة (عهد) الوصية أو الميثاق أو العقد الذي يرتبط به اثنان، وتشير هذه اللفظة هنا إلى العهد الذي قطعه اللّه بينه وبين ابراهيم أبي الشعوب وبينه تعالى وبين كليمه موسى وشعب النظام القديم في سينا، وفي عهده مع ابراهيم وموسى هيأ اللّه للعهد الذي سيعقده فيما بعد بينه وبين البشرية جمعاء بدم ابنه الوحيد يسوع المسيح الذي سفك لأجل خلاص العالم وهذا هو العهد الجديد.

وتنقسم أسفار الكتاب المقدس من حيث مواضيعها إلى أسفار الشريعة والأسفار التاريخية والحكمية والنبوية.
فأسفار العهد القديم: كُتِبت باللغة العبرية، وعددها ستة وأربعون، تنقسم إلى:

أولاً ـ أسفار الشريعة وهي: ـ أسفار موسى الخمسة وتعرف بالتوراة أي الشريعة. وقد كتبها موسى حوالي سنة ألف وخمسمائة قبل الميلاد وهي: 1ـ التكوين. 2ـ الخروج. 3ـ اللاويين. 4ـ العدد. 5ـ التثنية.

ثانياً ـ الأسفار التاريخية: وهي: 6ـ يشوع، وكتبه يشوع ابن نون. 7ـ القضاة، وكتبه صموئيل. 8ـ راعوث، وكتبه صموئيل. 9و10ـ صموئيل الأول والثاني، وكتبهما صموئيل وجاد وناثان. 11و12ـ الملوك الأول والثاني، وكتبهما ناثان، وقيل أن جاد وإشعياء النبي ويعدو اشتركوا معه. 13و14ـ الأيام الأول والثاني، كتبهما عزرا الكاهن. 15ـ عزرا، وكتبه عزرا الكاهن. 16ـ نحميا، وكتبه نحميا. 17ـ طوبيا، وكتبه طوبيا. 18ـ يهوديت، وكتبه يواكيم. 19ـ أستير، يقال إن كاتبه عزرا الكاهن أو مردخاي. 20و21ـ المكابين الأول والثاني.

ثالثاً ـ الأسفار الحكمية: وهي: 22ـ سفر أيوب، نظمه بالعبرية أو العربية أيوب الصدّيق أو موسى النبي، وهو أقدم الأسفار الإلهية كتابةً. 23ـ المزامير، نظم أكثرها داود والباقي نظمه موسى وهامان وآساف ويدثون وأنبياء آخرون. 24ـ الأمثال. 25ـ الجامعة. 26ـ نشيد الإنشاد. 27ـ حكمة سليمان. وهذه الأسفار الأربعة كتبها سليمان. 28ـ حكمة يشوع ابن سيراخ وهو شبيه بسفري الأمثال والحكمة.

رابعاًـ الأسفار النبوية: وكلها بأسماء كاتبيها الذين يسمون بالأنبياء الكبار والأنبياء الصغار بحسب حجم سفر نبوتهم، فأسفار الأنبياء الكبار هي: 29ـ إشعياء. 30ـ إرميا. 31ـ مراثي إرميا. 32ـ حزقيال. 33ـ دانيال.
وقد حذف بعض البروتستانت من سفر دانيال تسبحة الفتية الثلاثة في أتون النار، وقصة سوسنة العفيفة، وقصة بال والتنين.

أما أسفار الأنبياء الصغار فهي: 34ـ باروخ. 35ـ هوشع. 36ـ يوئيل. 37ـ عاموس. 38ـ عوبيديا. 39ــ يونان. 40ـ ميخا. 41ـ ناحوم. 42ـ حبقوق. 43ـ صفنيا. 44ـ حجّاي. 45ـ زكريا. 46ـ ملاخي.
أما أسفار العهد الجديد فهي سبعة وعشرون سفراً كتبها بعض الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار باللغة اليونانية ماعدا إنجيل متى فقد كتب باللغة الآرامية، ويُظَن أن الرسالة إلى العبرانيين قد كُتِبَت بالآرامية أيضاً، وهذه الأسفار مسماة بأسماء كاتبيها أو بأسماء الأشخاص أو الأماكن المكتوبة والموجهة إليهم، وهي بحسب التقسيم الذي اتبعناه بسرد أسماء الأسفار السابقة كالآتي:

أولاًـ أسفار الشريعة: وهي الأناجيل الأربعة، ولفظة إنجيل تعني البشارة السارة. وهي: 1ـ إنجيل متى، كتبه سنة 39م. 2ـ إنجيل مرقس كتبه سنة 61م. 3ـ إنجيل لوقا كتبه سنة 63م. 4ـ إنجيل يوحنا كتبه سنة 98م. وتعتبر الأناجيل الأربعة تاريخية أيضاً لاشتماله على سيرة السيد المسيح وتدابيره الإلهية بالجسد، وقد كتبت بعد صعوده إلى السماء بمدة تتراوح بين أربع إلى ست وستين سنة.

ثانياًـ الأسفار التاريخية: 5ـ سفر أعمال الرسل وقد كتبه لوقا البشير سنة 64م.

ثالثاًـ الأسفار التعليمية: وهي قسمان: أولهما من 6 ـ 19 تتضمن رسائل الرسول بولس، وقد كتبت بعد صعود الرب إلى السماء بمدة تتراوح من عشرين إلى ثلاث وثلاثين سنة وهي موجهة إلى: 6ـ رومية كتبها الرسول بولس في إفسس سنة 55 أو 57م، وكورنثوس الثانية كتبها الرسول بولس في مكدونية سنة 57 أو 58م. 9ـ غلاطية كتبها الرسول بولس في كورنثوس أو إفسس سنة 55 أو 58م. 10ـ إفسس كتبها الرسول بولس في رومية سنة 57م. 11ـ فيليبي كتبها الرسول بولس في رومية سنة 62م. 12ـ كولوسي كتبها الرسول بولس في كورنثوس سنة 52م وتسالونيكي الثانية كتبها الرسول بولس في مكدونية سنة 57 أو 58م. 15و16ـ تيموثاوس الأولى: كتبها الرسول بولس في مكدونية أو رومية سنة 64م، والثانية كتبها الرسول بولس في رومية سنة 65و68م. 17ـ تيطس كتبها الرسول بولس في نيكوبوليس أو إفسس سنة 64م. 18ـ فليمون كتبها الرسول بولس في رومية سنة 61م. 19ـ العبرانيين كاتبها مجهول، إذ لم يصرح باسمه. ويُظَن أنه الرسول بولس. والقسم الثاني من 20ـ26 الرسائل الجامعة وهي: 20ـ رسالة يعقوب، كتبها يعقوب في مدينة أورشليم سنة 61م. 21ـ رسالة بطرس الأولى كتبها بطرس بين سنتي 63و67م. 22ـ رسالة بطرس الثانية، كتبها بطرس بين سنتي 64و68م. 23و24و25ـ رسائل يوحنا الثلاث كتبها يوحنا في إفسس، الأولى سنة 98م، والثانية والثالثة سنة 70م على ما يظن. 26ـ رسالة يهوذا، كتبها بين سنتي 64و66م.
ولا بد من أن نذكر أنّ رسائل الرسول بولس والرسائل الجامعة تتضمن علاوة على الأمور التعليمية، بعض الشرائع والحوادث التاريخية وحتى النبوات.

رابعاًـ الأسفار النبوية: 27ـ سفر الرؤيا كتبه على الأغلب يوحنا الرسول الذي يوصف أيضاً بالرائي، وذلك بين سنتي 90و100م، ويتضمن النبوات بتدبير الرب الإله عالمنا إلى منتهى الدهر.

قانونية الكتاب المقدس:
القانون لغة، هو مقياس كل شيء، وفي السريانية (قنيو) أي قصبة المساحة التي كانت تستعمل كمقياس، وطولها أربعة أو ستة أو ثمانية أذرع، وأيضاً بالسريانية (قونونو) أي قاعدة، وقانون ومقياس. أما بالعربية فهي (القناة) أي العصاة المستقيمة وفي علم اللاهوت، تعني القواعد والأصول، فقانونية (الأسفار المقدسة) هي الاعتراف بكونها موحى بها من الله، وهي المعتبرة أجزاء من الكتاب المقدس.

استمدت إسفار الكتاب المقدس قانونيتها، منذ زمن تدوينها، فهي وحي إلهي، وقد هُيِّئ شعب العهد القديم مثلاً لتقبل أسفار العهد القديم كوحي إلهي وحفظها، وصيانتها. وكان مطلب هذا الوحي حال نزوله واضحاً صريحاً، إنه كلام الله، كما جاء في سفر إرميا، ما يأتي: (فدعا إرميا باروخ بن نيرنا فكتب باروخ عن فم إرميا كل كلام الرب الذي كلمه به، في درج السفر)(إر36: 4).

درست الكنيسة المسيحية قانونية أسفار العهد القديم التي كانت بيد اليهود، فقبلتها ككتاب موحى به من الله. وبهذا الصدد يقول الرسول بطرس: «إنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس اللّه القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط1: 21) وقال الرسول بولس: «كل الكتاب موحى به من الله»(2تي3: 16).
واقتبس السيد المسيح ورسله الأطهار وتلاميذه الأبرار آيات من أسفار العهد القديم، فقد وردت في أسفار العهد الجديد (465) آية من العهد القديم.

ويكفي أن السيد المسيح وحده ذكر عشرين شخصاً من أشخاص العهد القديم. وذكر منه حوادث عديدة وأشار إليها بوضوح، مثل: الطوفان (مت24: 37) وانقلاب سادوم وعامورة واحتراقهما بالنار والكبريت (لو17: 28ــ30و32) والمن والسلوى(يو6: 31و32) ورفع موسى الحية النحاسية في البرية (يو30: 14) وحادثة النبي يونان والحوت، وتوبة أهل نينوى (مت12: 39ــ41).

ونذكر أيضاً على سبيل المثال لا الحصر بعض أقوال الرب يسوع التي بها يشير إلى أسفار العهد القديم، فقد قال لابليس المجرب (مكتوب)(مت4: 4و7و10) وقال لليهود: «فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي تشهد لي… لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لا تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي» (يو5: 39و45ــ47). وفي ذات اليوم الذي قام فيه من بين الأموات ظهر للتلميذين اللذين كانا ذاهبين إلى قرية عمواس، وقال لهما: «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده، ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب»(لو24: 25ــ27) ولما ظهر لتلاميذه في العلية قال لهم: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو24: 44و45).

مكانة الأسفار المقدسة في العهد القديم:
كانت أسفار موسى الخمسة التي تدعى التوراة تقرأ سنوياً أمام الشعب كله، في عيد المظال(تث31: 9ــ11) وكلمة توراة العبرية تعني الناموس أو الشريعة. وكان اللّه تعالى قد أمر كل من يتوج ملكاً فيهم، أن يستكتب له نسخة من أسفار الشريعة لتكون معه دائماً، ويقرأ فيها كل أيام حياته، لكي يتعلّم أن يتقي الرب إلهه ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها(تث17: 18ــ20) وكان القارئ أيّاً كان لا يجرؤ على أن يلمس الكتاب بإصبعه لرهبته من قدسية الكتاب المقدس.

وعندما سبي الشعب، وتشرد وتشتت، كان من الطبيعي أن يصطحب معه نسخاً من الأسفار المقدسة أينما رحل، وحيثما حل، وإذ كان قد فقد هيكله، وتوقف عن تقديم الذبائح والمحرقات وغيرها، اقتصرت عبادته للّه على تلاوة الأسفار المقدسة، موجهاً عنايته إليها، بل قد تطرف بعضهم في تكريمها إلى درجة عبادتها. أما العقلاء الأتقياء المعتدلون، فقد ركزوا اهتمامهم على دراسة النبوات، وغدوا ينتظرون إتمامها بفارغ الصبر، وقوي بذلك إيمانهم بعناية الله، ورجاؤهم بإتمام وعوده تعالى بمجيء المخلص. ولكي يفهم الجيل الصاعد شريعة الله، نقلت الأسفار المقدسة إلى اللغات المحلية، وهكذا صار السبي وسيلة لنشر تعاليم الله، فعرفت الشعوب الوثنية الشيء الكثير عن نبوات أنبياء اليهود عن مجيء المخلص الذي سيأتي لفداء العالم أجمع.

وكانت الأسفار المقدسة تُقرأ في مجامع اليهود، أثناء العبادة، كل يوم ست خلال السبي البابلي، واستمر الحال على هذا المنوال، بعد العودة من السبي في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كانت المجامع قد انتشرت في الأرض المقدسة، كما نوه بذلك القديس يعقوب بقوله: «لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به، إذ يُقرأ في المجامع كل سبت» (أع15: 21). وقال البشير لوقا عن الرب يسوع ما يأتي: «وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت، وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً به…» (لو4: 16و17). وكلام البشير لوقا هذا يدل على أن الأسفار المقدسة كانت تتلى على مسامع الشعب في المجامع حتى ذلك العهد. وكانت لها المكانة الأولى في قلوبهم.

وكانت أسفار العهد القديم، المكتوبة باللغة العبرية، قد جُمِعت ونُظِّمت لتكون مجموعة واحدة مؤلفة من تسعة وثلاثين سفراً قانونياً وذلك سنة 534ق.م بهمة عزرا الكاهن وبمساعدة النبيين حجي وملاخي. أما الأسفار المكتوبة بالآرامية فاستثنيت من تلك المجموعة. وسنة 285ق.م عندما ترجمت أسفار العهد القديم إلى اليونانية بأمر بطليموس فيلادلفوس في الإسكندرية أضيفت إلى هذه الأسفار رسمياً الأسفار السبعة التي كتبت باليونانية والآرامية ما عدا سفر المكابيين الذي كتب بعد ذلك التاريخ وترجم بعدئذ وضمّ إليها أيضاً.
وكان هناك خلاف بين يهود الإسكندرية ويهود فلسطين حول هذه الأسفار التي دعيت بعدئذ، من بعض الكنائس، بالأسفار القانونية الثانية، فالاسكندريون دون الفلسطينيين كانوا يقبلونها كلها. وقد تسلمت المسيحية أسفار العهد القديم من اليهود ومعها تسلمت الخلاف حول بعضها، وظلّ الحال على هذا المنوال، حتى القرن الخامس للميلاد حيث قبلت الكنائس كافة، مجموعة الأسفار كاملة.

حذف بعض الأسفار:
وجدد الجدل حول قانونية بعض أسفار العهد القديم، مع ظهور الكنيسة البروتستانتية، إذ رفض بعض فرقها أسفاراً من العهد القديم دعتها (أبوكريفا) وهذه الأسفار هي: 1ـ طوبيا. 2ـ يهوديث. 3ـ حكمة سليمان. 4ـ حكمة يشوع بن سيراخ. 5و6ـ المكابيين الأول والثاني. 7ـ بعض أجزاء من سفر أستير. 8ـ بعض أجزاء من سفر دانيال كتسبحة الفتية الثلاثة القديسين وقصة سوسنة وغيرها. 9ـ باروخ.
وحجة رافضي هذه الأسفار هي أنها لم تكن في تعداد الأسفار القانونية التي جمعها عزرا الكاهن سنة 534ق.م. وإن الإعلانات الإلهية، حسب عقيدة شعب العهد القديم، قد توقفت بعد نبوة ملاخي الذي كان معاصراً لنحميا سنة 433ق.م وإن هذه الأسفار كتبت سنة 200ق.م وما بعدها وإن الأسفار القانونية كلها كتبت بلغتهم العبرية. وإن السيد المسيح ورسله الأطهار لم يستشهدوا بعباراتٍ منها.

ورداً على اعتراضاتهم هذه نقول: إن الوحي الإلهي لا يقتصر على لغة واحدة، وإن عزرا الكاهن وحجي وملاخي لم ينظموا في قانون الأسفار المقدسة سنة 534ق.م إلا ما كان مكتوباً بلغتهم العبرية إذ جمعوها معاً كأسفارٍ قانونية، أما ما كان مكتوباً بالآرامية، أو ما كتب بعد ذلك التاريخ، فلئن كان مكرماً لديهم، ومصدقاً منهم، ولكنهم لم يضعوه ضمن كتبهم القانونية، لعدم ظهور أنبياء لديهم بعد ذلك التاريخ، يخلف أحدهم الآخر، لكي يعترف الخلف بما كتبه السلف، وبهذا الصدد يقول مؤرخهم يوسيفوس فلافيوس: «لدينا فقط اثنان وعشرون سفراً. ومن أيام أرتحشستا إلى يومنا هذا دونت كل الحوادث، ولكننا لا نستطيع أن نضع فيما دُوِّن نفس الثقة التي نضعها في التواريخ السابقة لأنه لم تكن هناك سلسلة متعاقبة من الأنبياء أثناء هذه الفترة».

أما عدم استشهاد السيد المسيح ورسله الأطهار بعبارات من هذه الأسفار فليس دليلاً على عدم اعترافهم بقانونيتها، فهم لم يستشهدوا بعبارات من العديد من الأسفار التي يعترف البروتستانت بقانونيتها أيضاً. علماً بأن آباء الكنيسة الأولى قد استشهدوا بآيات منها في كتاباتهم كما أن فصولاً منها تقرأ في الكنائس أثناء الصلاة ضمن القراءات التي نظم جدولها آباء الكنيسة.

كما أن هذه الأسفار كانت قد ضمت إلى الأسفار التي نقلت إلى اليونانية في الإسكندرية عام 285ق.م كما يتضح ذلك من مخطوطة المتحف البريطاني في لندن.

ولا بد من أن نذكر أيضاً أن شعب العهد القديم التزم بما جاء فيها من توجيهات فعيَّد عيد تجديد الهيكل (يو10: 22) مثلاً، بناءً على ما رسمه يهوذا المكابي حين طهّر الهيكل من نجاسات الأمم الوثنية، وجدد مذبحه كما هو وارد في سفر المكابيين الأول (4: 59).

أما قانونية أسفار العهد الجديد التي بين أيدينا اليوم وهي سبعة وعشرون سفراً فقد أقرتها الكنيسة الأولى في أوائل القرن الثاني وأجمعت على قبولها كأسفارٍ موحى بها من اللّه كتبها الرسل والتلاميذ الذين اختارهم الرب يسوع وحلّ عليهم الروح القدس فأرشدهم إلى استعمال العبارات اللائقة، وصانهم من الخطل والزلل فكتبوا ما كتبوه بعباراتٍ واضحة، ومما يبرهن على صدقهم، بساطتهم في سرد شهادتهم عن السيد المسيح، فقد كتبوا ما رأوه بأم العين، وما سمعوه بالأذن، ولمسوه بالأيدي. وأتموا بذلك وصية الرب إذ قال: «فتكونون لي شهوداً في أورشليم وجميع اليهودية وفي السامرة وإلى أقصى الأرض»(أع1: 8) وقد قدموا شهاداتهم عن أمورٍ عرفها عدد كبير من معاصريهم، فلو كذبوا لكذّبوهم حينذاك. كما أثبتوا صدق كلامهم بالمعجزات الباهرات التي اجترحوها، وبسيرتهم الفاضلة، وإيمانهم حتى الموت بصدق ما بشّروا به وكتبوه. قال الرسول بولس: «إنه إن بشّرناكم نحن أو ملاكٌ من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيما»(غلا1: 9) فلا عجب إن كان لرسالتهم تأثير على عقول الناس وقلوبهم فأذعنت للمسيح وآمنت به.

وبعد أن أخذت أسفار العهد الجديد الصفة القانونية، كما ذكرنا، صار قبولها إلزاماً على المؤمنين كأسفارٍ موحىً بها من الله. لا يُزاد عليها حرفٌ، ولا يُحذف منها حرفٌ كقول الرسول يوحنا في سفر الرؤيا: «لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب، إن كان أحدٌ يزيد على هذا يزيد اللّه عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحدٌ يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة، يحذف اللّه نصيبه من سفر الحياة، ومن المدينة المقدسة، ومن المكتوب في هذا الكتاب»(رؤ22: 18و19).

سلامة الكتاب المقدس:
صان اللّه تعالى كتابه المقدس سالماً من أي تحريفٍ أو تبديل أو تناقض أو ناسخ أو منسوخ، فلم يعتره خلل منذ كتب وإلى الآن ولن يعتريه أبداً.

ومن البديهي أن يحافظ المؤمنون على سلامته، طالما يؤمنون بأنه كتاب اللّه الذي كتبه الأنبياء الصادقون، والرسل القديسون، مسوقين من الروح القدس وهو يحتوي على كل ما قصد اللّه تعالى أن يودعه فيه من معانٍ لخلاص الإنسان.

ومما يدل على حرص شعب العهد القديم مثلاً على الحفاظ على الأسفار المقدسة سليمةً من أية زيادة أو نقصان أسلوب نسخ الأسفار. فقد كان النساخ يعنون العناية التامة بكتابتها، وكانوا يعرفون عدد كل حرفٍ في كل سطرٍ أو صفحة، ويخافون العقاب من زيادة حرفٍ أو نقطة أو حذفهما. وعلى الرغم من انقسام اليهود إلى شيع وفرق عديدة واختلافاتهم في أمورٍ كثيرة، كانوا مجمعين على أن الأسفار المقدسة موحى بها من الله. وكذلك المسيحيون بالنسبة إلى نصوص العهدين قد أجمعوا على أنها كلام اللّه الحي «كل الكتاب موحى به من الله»(2تي3: 16) و«كلامك هو حقٌ»(يو17: 17) وقد اؤتمن شعب العهد القديم على حفظ أسفار الناموس والنبوات كقول الرسول بولس: «فلأنهم استؤمنوا على أقوال الله»(رو3: 1و2).

فالكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم بلغاته الأصلية، هو هو كما دوّنه الأنبياء والرسل، وتسلّمه آباؤنا الميامين، وسلّمونا إيّاه، سليماً صحيحاً. وقد تُرجم إلى كل لغةٍ ذات شأنٍ في العالم، ومع هذا مهما اختلفت الترجمات في الألفاظ، والأساليب في التعبير فهي جميعها تتطابق كل المطابقة بعضها لبعضٍ في الجوهر ولا خلاف بالمعنى. ويرجع تاريخ أقدم مخطوطاته العديدة بلغاتٍ شتى، إلى القرن الأول قبل الميلاد لأسفار العهد القديم. أما الكتاب المقدس بعهديه فإلى القرون: الثاني والرابع والسادس والسابع للميلاد. وهي محفوظة في شتى متاحف العالم وخزانات الكتب الشهيرة. وكان الكتاب المقدس أول كتاب نشر بالطبع بعد اختراع صناعة الطباعة في القرن الخامس عشر. وقد فحص العلماء هذه المخطوطات، وكذلك ما طبع من أسفار الكتاب حتى اليوم بلغاتها الأصلية وترجماتها وقابلوا نصوصها، بتدقيقٍ، فرأوها، رغم قدمها وتباعد البلدان التي جُمعت منها المخطوطات، مطابقة كل المطابقة بعضها لبعض. ولا خلاف فيها بالمعنى أبداً. ولئن اختلفت الترجمات في الألفاظ والأساليب في التعبير. وكلما اكتُشفت مخطوطة قديمة أضافت برهاناً جديداً على سلامة الكتاب المقدس لتطابقها كل التطابق مع النسخ التي بين أيدينا.

لم يجسر اليهود على تبديل أو حذف آية واحدة من نبوات الأنبياء التي تعلن حقيقة مجيء المسيح المخلص وموته وقيامته. فعلى الرغم من عدم إيمانهم بالمسيح يسوع وقد اعتبروه عدواً لدوداً لهم، حافظوا على مئات النبوات التي تنبّأ بها أنبياؤهم عن مجيئه قبل مجيئه بمئات السنين مفصلين مراحل تدبيره الإلهي على الأرض بوضوح، وكأنهم يكتبون تاريخ حياته بالجسد، وبقيت هذه النبوات برهاناً ناصعاً، وشهادة صادقة على أن يسوع الناصري هو المسيح المنتظر، وأن اليهود لم يعرفوا زمن افتقادهم فرفضوا المسيح فرفضهم الله.

ولو حاولوا حذف شيء من الأسفار المقدسة أيضاً لحذفوا ما دوّنه أنبياؤهم من الحقائق التي تسيء إلى سمعتهم وسمعة آبائهم بقساوة قلوبهم وتمردهم على اللّه وأعمالهم الهمجية التي يُندى لها جبين الإنسانية خجلاً. ولكنهم لم يجرؤوا على حذف نقطة واحدة أو كلمة واحدة من الأسفار المقدسة أو زيادة ذلك عليها. وكذلك الحال بالنسبة إلى المسيحيين بحفاظهم على أسفار العهدين.

كما إن اليهود والمسيحيين ينقسمون إلى فرقٍ عديدة، وشيعٍ لا يُحصى لها عددٌ، فلو فكرت فرقةٌ من الديانتين أن تحرّف أسفار العهدين لشنّعت بها سائر الفرق. ولكن ذلك لم يحصل ولن يحصل أبداً.

ولا ننسى أن نذكر إن قبول الرسل الأطهار الحقائق الإلهية ولئن فاقت إدراكهم، لهو دلالة واضحة على أمانتهم في حفظ الكتاب سليماً من أي تبديل. فعقيدة صلب السيد المسيح مثلاً لم يكن من الهيّن قبولها، حتى إن سمعان بطرس لما سمعها من الرب قال له: «حاشاك يا رب. لا يكن لك هذا»(مت16: 22) ورغم صعوبة الفكرة، كانوا يبشّرون بها لأنها حقيقةٌ إلهية. مما يدل على أن الإنجيل صحيح. وقد كرزوا أولاً بالإنجيل المكتوب في قلوبهم لمدة ثلاثين سنةً، ثم بعد ذلك كتبوا الأناجيل الأربعة من مناطق بعيدة عن بعضها وأماكن متفرقة وبدون سابق اتفاق أو تواطؤ على كتابتها. وقد جاءت أناجيلهم مختلفة النصوص ولكنها واحدة في الجوهر. مما يدل على أن الإنجيل صحيح وصادق. وقد أجمعوا بالشهادة التي قدّموها بالإنجيل على صلب المسيح، وموته، وقيامته رغم أن التبشير (بالمسيح المصلوب) كان وما يزال عثرة لليهود وجهالة لدى الأمم (1كو1: 18) فهذا أقوى دليل على صدق جميع أسفار الكتاب، وسلامتها. كما إنه قد كُتب من الأناجيل آلاف النسخ وانتشرت في العالم بلغاتٍ مختلفة ولم توجد نسختان تختلف الواحدة عن الأخرى من الإنجيل الواحد، أو تختلف عن سائر النسخ. فهل يعقل أن تجمع هذه النسخ من أنحاء العالم وتُحرَّف وتُباد النسخ الأصلية وتبقى المحرفة!

لغات الكتاب المقدس:
كُتِب معظم أسفار العهد القديم باللغة العبرية، ويُظن أن سفر أيوب كُتِب أولاً بالعربية شعراً ثم نُقِل إلى العبرية نظماً أيضاً. ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد أخذت اللغة الآرامية مكان اللغة العبرية في شؤون الحياة اليومية لدى اليهود، إذ كان الشعب قد نسي اللغة العبرية أثناء السبي البابلي، وأخذ يتكلّم اللغة الآرامية، فكتبت بالآرامية أسفار: طوبيا ويهوديث وبعض أجزاء من سفري عزرا ودانيال. وكُتِبت باليونانية (الدارجة) أسفار الحكمة والمكابيين الثاني. علماً بأن اللغة العبرية بقيت اللغة الدينية لدى اليهود.
أما أسفار العهد الجديد فكُتِب أغلبها باللغة اليونانية (الدارجة) وكان هؤلاء الكتّاب ذوي ثقافة آرامية، ومطبوعين في تفكيرهم بالطابع الآرامي السرياني. وقد تكلّم السيد المسيح ورسله باللغة الآرامية السريانية وبها كتب الرسول متى الإنجيل المقدس ويقول أوسابيوس القيصري(263ــ339) بهذا الصدد: «لأن متى كرز أولاً للعبرانيين، كتب إنجيله بلغته الوطنية». أما الرسالة إلى العبرانيين فقد كتبت أصلاً باليونانية الفصحى، وقيل بل بالآرامية أو العبرية ونقلت إلى اليونانية.

أهم ترجمات الكتاب المقدس:
ترجم الكتاب المقدس من لغاته الأصلية إلى لغات عديدة بلغت اليوم ما ينوف على ألف ومئتي لغة ولهجة، وأهم هذه الترجمات القديمة هي:
1ــ الترجمة السبعينية: التي تمت في الإسكندرية بأمر الملك بطليموس فيلادلفيوس وذلك نحو سنة(282ق.م) وأطلق عليها اسم السبعينية إما لأن مجلس السنهدريم وهو مجلس اليهود الأعلى المؤلف من سبعين عضواً قد صادق على صحتها، أو لأنها تمت على أيدي 72 مترجماً باللغتين العبرية واليونانية، الذين حبسوا أنفسهم في 72غرفة حتى انتهوا من عملهم بعد 72 يوماً. ولما قورنت ترجمة كل منهم بترجمات الآخرين، وجدت جميعها وكأنها عمل شخصٍ واحد، مما يبرهن على أن اللّه سبحانه وتعالى يصون كتابه المقدس، وأن الترجمة جاءت مطابقة للأصل مطابقة تامة. وقد استعملت مجامع اليهود هذه الترجمة في العبادة، ما عدا المجامع التي في فلسطين إذ كانت الأخيرة تقرأ الأسفار المقدسة بالعبرية وتنقلها إلى الآرامية.
وللترجمة السبعينية أهمية كبرى، فمنها نقلت أسفار العهد القديم إلى اللغة اللاتينية في منتصف القرن الثاني للميلاد، وكذلك عنها نقلت الترجمات القبطية بين القرنين الثالث والخامس للميلاد، وغيرها.
2ــ الترجمة السريانية: المعروفة بـ (فشيطتا) أي البسسيطة:
روى مار يعقوب الرهاوي (+708) أن أبجر الخامس ملك الرها (+50) بعدما آمن بالرب يسوع على يد البشير أدى الذي أوفده إلى الرها أخوه الرسول توما، أرسل ابجر من الرها إلى فلسطين عدة علماء تفرّغوا لنقل أسفار الكتاب المقدس إلى اللغة السريانية وعادوا بها إليه. وهذه الترجمة مفقودة.
أما الترجمة السريانية التي أطلق عليها في القرن التاسع اسم (فشيطتا) أي البسيطة، فقد جرت على مرحلتين: المرحلة الأولى وقد تمت في أواخر القرن الأول للميلاد حيث نقل جماعة من العلماء اليهود المتنصرين أسفار العهد القديم عن العبرية إلى السريانية، في الرها على الأغلب، وسميت (صورات أكثوب) أي متن الكتاب المقدس ونصه. أما المرحلة الثانية فقد تمت في أوائل القرن الثاني للميلاد حيث نقل العلماء السريان أسفار العهد الجديد من اليونانية إلى السريانية ودعيت هذه الترجمة أيضاً بـ (صورات أكثوب) أي متن الكتاب المقدس ونصه. وقد حوت كل أسفار العهد الجديد ما عدا رسالتي مار يوحنا الثانية والثالثة ورسالة مار بطرس الثانية ورسالة مار يهوذا ورؤيا يوحنا الرسول. وقد أجمع العلماء على أنها ترجمة صحيحة وأمينة بدون أن تكون حرفية، وسميت بالبسيطة لبساطتها ووضوحها وترك أفانين البلاغة وتعقيداتها في نقلها واستعملتها الكنيسة السريانية لبساطتها، دون الترجمة السبعينية، وذكرها آباؤها الأولون مقتبسين منها في كتاباتهم وكانت في أواسط القرن الرابع قد قوبلت على النص اليوناني الذائع يومئذ في كنائس الجالية اليونانية في أنطاكية. وما تزال الكنيسة السريانية تستعمل هذه الترجمة بنصها وفصها وما تزال هذه الترجمة ذات أهمية كبرى، وتعد من المراجع المهمة جداً في دراسة الكتاب المقدس. وأقدم مخطوطة لها، محفوظة في المتحف البريطاني في لندن وترقى إلى القرن الرابع للميلاد. وقد أحصى بعضهم خمساً وخمسين مخطوطة سريانية بالقلم الاسطرنجيلي من الترجمة البسيطة، مكتوبة في القرون الخامس والسادس والسابع، محفوظة إلى اليوم في مكتبات الشرق والغرب، يقابلها اثنتان وعشرون نسخة لاتينية وعشر نسخ فقط يونانية.

وفي السريانية ترجمات أخرى منها:
الترجمة الأنطاكية: المعروفة اليوم بـ (السينائية) لاكتشاف نسختها في دير طور سينا عام 1892 وقد كتبت بخط يوحنا العمودي في دير مار قانون في معرة مصرين سنة 698م أو 789م ونشرتها السيدة لويز عام 1910. وعلى الأغلب أن ططيانس قد اعتمدها في جمع الدياطسرون أي «من خلال الأربعة» وهو الإنجيل الموحد أو المختلط كما يسميه آباؤنا السريان.
الترجمة الفلكسينية: التي تمت على يد الخورفسقفوس فوليقربوس بعناية مار فيلكسنوس مطران منبج عام 505م واقتصرت على ترجمة أسفار العهد الجديد ويظن أنه نقل بعض أسفار العهد القديم أيضاً ولم تصل إلينا هذه الترجمة.
الترجمة الحرقلية: وهي مشهورة جداً كتب عنها المؤرخ السرياني الشهير البطريرك مار ميخائيل الكبير (1199+) ما تعريبه بتصرف «في عهد البطريرك أثناسيوس الأول (595ــ631) اشتهر توما الحرقلي من دير ترعيل وهو أسقف منبج، الذي درس اللغة اليونانية منذ نعومة أظفاره في قنسرين. ولما صار أسقفاً، ونفي من كرسيه بدسائس دوميطان أسقف ملاطية في عهد موريقي الملك كان توما المغبوط في جملة الأساقفة الذين هربوا بسبب الاضطهاد إلى بلاد مصر. وانكفأ في الدير المسمى أنطون بجوار الإسكندرية، حيث نقح بدقة فائقة الترجمة السريانية لكتاب الإنجيل المقدس وسائر كتب العهد الجديد وهذه الترجمة كانت قد جرت بهمة مار فيلكسينوس أسقف منبج وفي زمانه».

الترجمة السبعينية السريانية:
وفي هذا الزمن أيضاً نقل إلى السريانية مار بولس مطران تلا بين سنتي 615ــ617 بأمر البطريرك الأنطاكي مار أثناسيوس الأول 595ــ631. الترجمة السبعينية لأسفار العهد القديم بحسب هكسبلا أوريجانس وسميت هذه الترجمة بالسبعينية السريانية، واعتمدها العديد من علماء السريان في دراساتهم، منهم العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286+) في كتابه (أوصار روزي) أي مخزن الأسرار، وقد ذكر ابن العبر ي ذاته في كتابه (صمحي) (في نحو اللغة السريانية) أن هذه الترجمة هي أفضل من الترجمة البسيطة لبلاغة عباراتها.
ومما هو جدير بالذكر أن بولس بن عرقا الرهاوي الأديب السرياني الشهير في أوائل القرن الثالث للميلاد، استنبط الخط الاسطرنجيلي لكتابة الإنجيل المقدس بالسريانية. فقد اهتم الخطاطون السريان على مرّ الدهور والأجيال بإجادة نسخ أسفار الكتاب المقدس.

بعض الترجمات العربية:
يذكر التاريخ أن ورقة بن نوفل نقل أجزاء من الإنجيل المقدس إلى العربية. أما أشهر ترجمة عربية للإنجيل يذكرها تاريخنا السرياني فهي الترجمة التي تمت على أيدي علماء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية العرب من بني طي وتنوخ وعاقولا (الكوفة) وقد قاموا بذلك بأمر البطريرك يوحنا الثالث أبي السذرات (+648) استجابة لرغبة عمرو بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري أمير الجزيرة. قال فيها البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199) في تاريخه الشهير ما يأتي: ــ «في هذا الزمان استقدم عمرو بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري أمير الجزيرة، البطريرك يوحنا الثالث أبي السذرات (631ــ649) فلما مثل بين يديه ابتدأ يناقشه ويجادله بقضايا لا تتفق والكتاب المقدس، ويوجه إليه أسئلة ملتوية، ففند البطريرك اعتراضاته بحجج دامغة اقتبسها من أسفار العهدين القديم والجديد، ومن بينات طبيعية، فأعجب الأمير بشجاعته وغزارة علمه، وطلب إليه قائلاً: «ترجم لي إنجيلكم إلى اللغة العربية على أن لا تدخل فيه اسم المسيح اللّه أو المعمودية أو الصليب، فأجابه البطريرك المغبوط بجرأة قائلاً: «حاشا لي أن أنقص حرفاً واحداً أو سطراً واحداً من الإنجيل مهما سامني جندك من صنوف العذاب بالسيوف والرماح. فلما رأى شجاعته وصموده قال له: اذهب واكتب بحسب إرادتك. فجمع البطريرك العلماء العرب والأساقفة من بني تنوخ وعاقولا (الكوفة) وطي، المتبحرين في اللغتين العربية والسريانية، وأوعز إليهم لينقلوا الإنجيل إلى اللغة العربية، وأوصاهم بأن تتلى عبارة عبارة من الترجمة على مسامع شارحي (الكتاب المقدس) كافةً. وبعد أن ترجموه ونقّحوا عباراته أخذوه إلى الملك». وهذه الترجمة مفقودة.
وقد اكتشف في دير كاترينا بشبه جزيرة سينا عام 1950 أقدم ترجمة عربية للتوراة عرفت في التاريخ وهي من القرن السابع للميلاد.
وإن يوحنا أسقف أشبيلية في إسبانيا قام بترجمة أجزاء من الكتاب المقدس إلى العربية سنة 750 معتمداً على الترجمة اللاتينية لهيرونيموس.

وظهرت ترجمات عديدة لأسفار الكتاب المقدس بالعربية بعد ذلك التاريخ نقلت عن اليونانية أو السريانية. وفي القرن التاسع عشر نقلت أسفار الكتاب من العبرية واليونانية القديمة إلى العربية وطبعت سنة 1864 في لبنان وقد أسهم بهذا العمل الدكتور كورنيليوس فانديك بمؤازرة الشيخ ناصيف اليازجي والمعلم بطرس البستاني والشيخ يوسف الأسير.

وفي عام 1876 صدرت الترجمة العربية المعروفة باليسوعية لأسفار الكتاب المقدس كاملة مترجمة عن العبرية واليونانية. كما ظهرت ترجمات عربية عن السريانية.

الترجمة المليالمية: وهذه الترجمة يستعملها أبناء كنيستنا السريانية الهنود في كيرالا في جنوب الهند وفي الهند وخارجها. وقد قام بها الربان فيلبس السرياني الملباري الهندي ناقلاً الكتاب المقدس برمته من السريانية إلى المليالم لغة جنوب الهند، وذلك في القرن التاسع عشر.

ترجمات أخرى:
ولابد من أن نذكر الترجمة الأرمنية لأسفار الكتاب المقدس التي تعاون على إنجازها الملفان دانيال السرياني ومسروب الأرمني سنة 404م والترجمة الفارسية التي تمت سنة 1221 على يد يوحنا ابن القس يوسف السرياني التفليسي.

الدياطسرون:
في حدود سنة 172 للميلاد جمع ططيانس السرياني (ت180) الأناجيل الأربعة وصاغها كتاباً واحداً، مبتدئاً من الآية الأولى من الإنجيل بحسب يوحنا: «في البدء كان الكلمة» ومتتبعاً بإنشاء سهل ممتنع ما انفرد به كل من الأناجيل الأربعة للموضوع الواحد ودعا هذا الكتاب بـ (الدياطسرون) وهذه كلمة يونانية معناها: (من خلال الأربعة) وسماه السريان الإنجيل المختلط أو الموحد تمييزاً له عن الأناجيل المفردة، ويضم خمسة وخمسين فصلاً. وقد وضعه بالسريانية معتمداً فيه، كما ارتأى بعض العلماء، على الترجمة التي تعرف اليوم بالسينائية لاكتشاف مخطوطاتها في دير كاترينا في شبه جزيرة سيناء، أو على الترجمة البسيطة على رأي غيرهم من العلماء. ونقله إلى اليونانية. وقد أحب السريان (الدياطسرون) وقرؤوه في كنائسهم خاصة في الرها وولايتي الفرات وما بين النهرين حتى ألغى استعماله رابولا مطران الرها في القرن الخامس حرصاً على سلامة الكتاب المنزَّل، وأحلّ محله الأناجيل الأربعة المفردة. ولا وجود اليوم لمخطوطة كاملة منه. وقد فسّر مار أفرام السرياني (373+) (الدياطسرون) ونقل بعضهم هذا التفسير إلى الأرمنية وله مخطوطة بالأرمنية كتبت عام 1195 نشرت بالطبع مع ترجمتها اللاتينية سنة 1876 كما نقل في القرن الحادي عشر إلى العربية. وفي عام 1888 نشر النص العربي مترجماً إلى اللاتينية، ثم نقل إلى الإنكليزية فالألمانية سنة 1896ــ1926 وقد اكتشفت المخطوطة السريانية الفريدة لتفسير مار أفرام للدياطسرون ونشرت بالطبع في أوكسفورد سنة 1963 مترجمة إلى اللاتينية.

بعض مخطوطات الكتاب المقدس الباقية:
اكتشفت عبر الأجيال مخطوطات لأسفار الكتاب المقدس، مجموعة أو متفرقة بلغاته الأصلية أو ترجماته. من ذلك مخطوطات البحر الميت في فلسطين، التي اكتشفت عام 1947 وهي ملفات من الرق، أهمها نص كامل، باللغة العبرية، لسفر النبي إشعيا الذي عاش في القرن الثامن ق.م وتنبّأ عن ميلاد السيد المسيح من عذراء، وعن صلبه وموته. ويعود تاريخ نسخ هذه المخطوطة إلى القرن الأول للميلاد، وتظهر أهميتها لعدم وجود مخطوطات كاملة بالعبرية يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن التاسع للميلاد.

والمخطوطة الفاتيكانية الكاملة:
وتضم أسفار العهد القديم مع الجزء الأكبر من الأسفار القانونية الثانية وأسفار العهد الجديد ما عدا رسالتي تيموثيؤس الأولى والثانية ورسالة تيطس وسفر الرؤيا. وقد عني الملك قسطنطين بنسخها باليونانية سنة 328م.

المخطوطة السينائية:
باليونانية وتتضمن ثلثي أسفار العهد القديم، ويرتقي تاريخ نسخها إلى القرن الرابع للميلاد، وقد اكتشفت هذه المخطوطة النفيسة في دير سانت كاترين عند سفح جبل سينا، وأهديت إلى القيصر نيقولا الثاني امبراطور روسيا وقد طبعها ونشرها سنة 1862 وظلت النسخة الأصلية في مكتبة ليننغراد ثم بيعت إلى المتحف البريطاني عام 1933 وتحتوي على أسفار العهد القديم بكاملها وعلى القسم الأكبر من الأسفار القانونية الثانية وأسفار العهد الجديد.
واكتشفت أيضاً في الدير نفسه (دير كاترينا) سنة 1844 نسخة يونانية للعهدين خُطَّت في القرن الرابع، وهي محفوظة الآن في المكتبة الملوكية في بطرسبرج.

المخطوطة المعروفة بالإسكندرية:
ويرتقي عهد نسخها إلى القرن الخامس للميلاد، وهي تضم أسفار العهدين كاملة، وبعض الأسفار القانونية الثانية وهي المكابيين وطوبيا ويهوديث وعزرا الأول والثاني والحكمة وحكمة سليمان. وكانت هذه المخطوطة ضمن مخطوطات بطريركية الإسكندرية حتى سنة 1628 حيث أهديت إلى شارلس الأول ملك انكلترا وهي الآن محفوظة في المتحف البريطاني في لندن. وقد كتبت باليونانية بالحرف الاسفيني الذي كان مستعملاً حتى القرن التاسع للميلاد.

النسخة الأفرامية:
وهي محفوظة في مكتبة السلطانية بباريس، وسميت بالأفرامية لأن أحدهم اقتناها باعتبارها أسفار الكتاب المقدس، ولكن إذ بهت لون كتابتها، كتب عليها ميامر أفرام السرياني(+373) فوق كتابة الأسفار المقدسة. واستطاع أحد العلماء أن يمحو منها ميامر مار أفرام فظهرت الكتابة الأصلية للكتاب المقدس باليونانية وهي قديمة جداً إذ تعود كتابتها إلى القرن الرابع للميلاد.

مخطوطة الإنجيل بحسب يوحنا باليونانية:
اكتشفها عام 1956 السيد مرتان بودمير أحد أساتذة اللاهوت في جنيف، وهو القسم الأكبر من إنجيل يوحنا (من الفصل الأول وإلى الفصل الرابع عشر) وقد كتب على ورق البُردي ويرجع تاريخ كتابته إلى القرن الثاني للميلاد أي بعد وفاة الرسول يوحنا بمدة وجيزة جداً. وهو مطابق كل المطابقة لنص الإنجيل اليوناني الذي بين أيدينا ولسائر المخطوطات، كمخطوطة الفاتيكان التي نسخت سنة 328م والسينائية التي يرقى تاريخ نسخها إلى القرن الرابع أيضاً والإسكندرية التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس.

مخطوطات بالسريانية:
ومن المخطوطات المهمة جداً، والقديمة جداً، نسخة للأناجيل الأربعة المقدسة بالسريانية بخط الكاتب يعقوب في الرها كتبها عام 411م وهي محفوظة اليوم في المتحف البريطاني في لندن.
والمخطوطة السريانية للكتاب المقدس كتبت سنة 548م ومحفوظة في مكتبة الفاتيكان. ومخطوطة مكتبة فلورنسا التي كتبها بالسريانية سنة 586م الربان رابولا ولذلك تدعى بـ (إنجيل رابولا) وتنطوي على ست وعشرين صورة ملونة وفضلاً عن امتياز هذه المصاحف بجودة الخط وحسنه، فقد تميّزت أيضاً بالنقوش والصور التي جاءت آية في الفن والإبداع.

ومن النسخ المحفوظة في مكتبات الكنائس والأديرة السريانية والمتاحف وخزانات الكتب العالمية نذكر على سبيل المثال لا الحصر نسخة قديمة للعهد الجديد مكتوبة بالسريانية ومنقولة إلى العبرية نُسخت سنة 1189 ومحفوظة في دير مار متى في الموصل ــ العراق.

إلى جانب هذه المخطوطات، هناك آيات مقدسة وعبارات كريمة لا يحصى لها عدد اقتبسها آباء الكنيسة الأولون من أسفار الكتاب المقدس منذ فجر المسيحية. وهي محفوظة ضمن كتاباتهم بمخطوطات قديمة العهد. وهي أقوى برهان وأدمغ حجة على سلامة الكتاب المقدس لأن نصوصها مطابقة كل المطابقة لنصوص الكتاب المقدس. وقد قيل عن مار أفرام السرياني مثلاً: «لو نفدت ترجمة الكتاب المقدس السريانية الأصلية لتيسر جمع نصوصها من تصانيف مار أفرام».

نشر أسفار العهد الجديد بالطبع بالسريانية:
في أواسط القرن السادس عشر للميلاد أرسل البطريرك الأنطاكي السرياني مار إغناطيوس عبدالله اسطيفان (1520ــ1557+) القس موسى ابن القس اسحق الصوري إلى النمسا، وبوساطة أستاذ القانون الكنسي المستشرق العلامة يوحنا بدمانستاديوس الذي كان يجيد اللغة السريانية اهتم بطبع أسفار العهد الجديد من الكتاب المقدس لأول مرة باللغة السريانية طبقاً لنص الترجمة البسيطة (فشيطتا) وذلك في فيينا سنة 1555م على نفقة فرديناندرس (1503ــ1564م) ملك رومانيا وجرمانيا وهنغاريا وبوهيميا ورئيس رؤساء النمسا الشرقية والغربية يومذاك.
وقد طبع الكتاب بالقلم السرياني الغربي الذي وضع في القرن التاسع للميلاد. أما العناوين فقد كتبت بالخط الاسطرنجيلي.
ويحتوي الكتاب على أسفار العهد الجديد ما عدا رسالتي يوحنا الثانية والثالثة ورسالة يهوذا وسفر رؤيا يوحنا الرسول. ذلك أن بعض الآباء لم يكن قد تبين لهم قانونية هذه الأسفار وبعض أسفار العهد القديم. أما اليوم فقد زالت الشكوك التي كانت تثار حولها وهي في الكنيسة السريانية تعتبر كسائر الأسفار القانونية.
وقسمت أسفار الكتاب المذكور إلى فصول تتلى عادة في الكنيسة السريانية في بدء القداس أيام الآحاد والأعياد. ويعتبر الكتاب تحفة من تحف فن الطباعة وهو أول كتاب سرياني ينشر بالطبع.

تقسيم الكتاب المقدس إلى فصول:
كان كل سفر من أسفار الكتاب المقدس في أول الأمر فصلاً واحداً من أوله إلى آخره ما عدا سفري المزامير ونشيد الإنشاد. وقيل أن أسفار العهد القديم تم تقسيمها إلى ستمائة وتسعة وتسعين فصلاً على يد عزرا الكاتب أو موسى النبي.

أما تقسيم سائر الأسفار إلى فصول، المعوَّل عليه لدينا نحن السريان فقد جرى على يد العلامة مار يعقوب الرهاوي الذي قسّم الترجمة السريانية البسيطة (فشيطتا) إلى فصول واضعاً في مقدمة كل فصل ملخصاً لمحتويات وفي الهامش شرحاً للكلمات الصعبة كما ضبط اللفظ الصحيح.


تلاوة الكتاب المقدس في الكنيسة:
عيّن السريان فصولاً خاصة من أسفار الكتاب يتلونها أيام الآحاد والأعياد في الكنيسة ضمن الطقس البيعي. فقد عينوا لكل أحد وعيد ثلاث قراءات من العهد القديم على أن تكون الثالثة من أسفار النبوات، وثلاثاً من العهد الجديد أي من سفر أعمال الرسل أو إحدى الرسائل الجامعة ومن الرسائل البولسية والإنجيل المقدس. وتزيد هذه القراءات وتنقص بالنسبة إلى المناسبة في ممارسة أسرار الكنيسة والأصوام والمواسم. ومما يلاحظ أن السريان استثنوا من الكتاب المقدس قراءة سفري نشيد الإنشاد ورؤيا يوحنا وأكثر سفري المكابيين.
وقد وضع آباء الكنيسة صلوات خاصة يتلوها المؤمنون قبل البدء بقراءة الكتاب المقدس في تأملاتهم الفردية والعائلية والطقسية، وهي أدعية فيها يطلبون من الرب أن ينير أذهانهم لفهم معاني كلمة الحياة ذلك أن للكتاب المقدس مكانة سامية في الكنيسة. وبموجب طقسنا السرياني يُنصب في وسط باب المذبح المتوسط في كل كنيسة منبر صغير من الخشب يقال له بالسريانية (كوغولتو) أي الجلجلة. ويُصمد عليه الإنجيل المقدس ويكون ظاهر الإنجيل مغشى بصفيحة من الذهب أو الفضة المذهبة موسوماً عليها صور الإنجيليين الأربعة والصليب المقدس ليقبِّله المؤمنون تبركاً عند دخولهم الكنيسة ومغادرتهم إياها. كما خصصت الكنيسة مناداة يرتلها الشماس قبل قراءة الإنجيل المقدس في الكنيسة خلال الخدمات الطقسية، يدعو بها المؤمنين أن يقفوا منتصبين، ويصغوا بخوفٍ وحكمة لسماع كلام بشارة الخلاص، ويعبق البخور أثناء ذلك. وقارئ الإنجيل في الطقس السرياني عندنا هو مقرِّب الذبيحة الإلهية بطريركاً كان أو مطراناً أو كاهنًا.