بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
المقدمة:
تعتبر حقيقة مجيء الرب يسوع المسيح ثانية، عقيدة مسيحية سمحة، تسلّمتها الكنيسة المقدسة من الرب يسوع ذاته، فقد أوضحها له المجد لرسله الأطهار في مناسبات عديدة. وغدت هذه العقيدة سبب عزاء للمؤمنين، في تحمّلهم الاضطهادات العنيفة في القرون الأولى للميلاد، ذلك أن هؤلاء المؤمنين وضعوا رجاءهم في المسيح يسوع الذي أحبّهم وفداهم بدمه الكريم، وأرسلهم إلى العالم لينشروا بشارته الإنجيلية ووعدهم بأن يكون معهم حتى انقضاء الدهر، وأنه ولئن غادرهم بالجسد إذ صعد إلى السماء فسيأتي ثانية ليأخذهم إليه ويكافئهم عن أتعابهم في خدمته. وحيَّوا بعضهم بعضاً بالعبارة السريانية الآرامية التي يذكرها الرسول بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (16: 22) وهي «ماران أثا» أي الرب آت. وبهذه العبارة شجّع المؤمنون بعضهم بعضاً على تحمّل المشقات والاصطبار على الضيقات والاستمرار بالجهاد، فإن الرب آتٍ لا محالة ليجازي كل واحد حسب عمله (مت 16: 27).
واعتادت الكنيسة تذكير المؤمنين بهذه العقيدة الإيمانية أثناء تقديم الذبيحة الإلهية، حيث تناجي الرب قائلة: «يا رب إننا نذكر موتك، معترفين بقيامتك ومنتظرين مجيئك الثاني فارحمنا جميعاً» والكنيسة بهذا تكمل أيضاً وصية الرسول بولس القائل: «فإنكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تُخبِرون بموت الرب إلى أن يجيء»(1كو 11: 26).
والكنيسة المقدسة منذ بدئها وحتى اليوم، تقف على أصابع أقدام الانتظار شاخصة إلى السماء منتظرة عودة الرب يسوع المسيح ليأخذها إليه، فهي عروسه الطاهرة النقية التي اقتناها بدمه الكريم وستُزفّ إليه في مجيئه الثاني لتملك معه في السماء إلى الأبد.
المجيء الأول:
قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اللّه بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة. كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين»(عب 1: 1).
كان موضوع كلام اللّه مع أولئك الآباء والأنبياء، وعداً صادقاً بمجيء ابنه الحبيب ـ نسل المرأة ـ ليسحق رأس الحية الدهرية إبليس وينقذ البشرية من ربقة الخطية ويخلصها من الموت الأبدي. وقد قطع اللّه هذا العهد مع أبوينا الأولين آدم وحواء أولاً ثم مع بقية الآباء الصالحين، والأنبياء الصادقين مروراً بابراهيم واسحق ويعقوب، وعبوراً بأشعيا ودانيال وملاخي وسمعان الشيخ. ولم يتمكّن أحد من أولئك الآباء والأنبياء أن يوصل الفترة الزمنية ما بين إعطاء الوعد وإتمامه. فماتوا جميعاً، ويقول فيهم الكتاب المقدس: «في الإيمان مات هؤلاء أجمعون ولم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدّقوها وحيَّوها وأقرّوا بأنّهم غرباء ونزلاء على الأرض» (عب 11: 13) وفي ملء الزمن أرسل اللّه ابنه فتجسّد. وبتجسّده أكمل النبوات التي قيلت عنه قبل تجسّده بقرون عديدة وفدى البشرية بموته على الصليب ودفنه وقيامته في اليوم الثالث ممجداً.
وبعد قيامته بأربعين يوماً، أخذ تلاميذه إلى جبل الزيتون القريب من بيت عنيا «وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء»(لو 24: 51).
كان قد أشار إلى صعوده بقوله لتلاميذه: «ليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي في السماء»(يو 3: 13) وقال في كفرناحوم «أهذا يعثركم فكيف إذا رأيتم ابن البشر صاعداً إلى حيث كان أولاً»(يو 6: 62) كما صرّح أيضاً لتلاميذه عن صعوده إلى السماء ليعد لهم مكاناً (يو 14: 1 ـ 3).
وقد قام من القبر بجسده الذي أخذه من العذراء مريم والذي فيه صلب ومات ودفن في القبر الجديد وقد تمجّد هذا الجسد بقوته الإلهية فقام من القبر ممجداً، وهذا الجسد الممجَّد المتّحد بالنفس البشرية هو ذاته صعد إلى السماء وجلس عن يمين الإله الآب، ولا غرو فقد وصفه الرسول بولس بقوله «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، اللّه ظهر في الجسد، تبرّر في الروح تراءى لملائكة كُرز به بين الأمم، أُومِن به في العالم رُفع في المجد»(1تي 3: 16) فقد صعد «فوق جميع السموات» (أف 4: 10) وهو الآن في يمين اللّه إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له (1بط 3: 22). أي أعطاه الآب السلطة المطلقة على الكائنات، وأخضع أعداءه لسلطانه.
المجيء الثاني:
يصف البشير لوقا حادث صعود الرب إلى السماء بقوله: «وأخرجهم (أي رسله الأحد عشر) خارجاً إلى بيت عنيا. ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء»(لو 24: 50و51). «وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض، وقالا أيها الرجال الجليليّون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء» (أع 1: 9 ـ 11) «فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم» (لو 24: 52).
كانت الدواعي الموجبة لفرح الرسل حينئذ بشارة الملاكين بعودة الرب يسوع ثانية إلى العالم.
علامات المجيء الثاني:
قبل صلب الرب يسوع وموته بثلاثة أيام، كان له المجد، خارجاً من الهيكل وتلاميذه حوله، وكانت أعمال ترميم الهيكل وتزيينه قائمة على قدم وساق، وسحرت عقول التلاميذ بهذه الزينة البديعة والحجارة الحسنة والتحف الثمينة، فلفتوا انتباه الرب إلى ذلك، فقال لهم: «هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يترك فيها حجر على حجر لا ينقض»(لو 21: 5و6 ومت 24: 2) فاضطربت قلوبهم، وكادوا يهلكون هلعاً وجزعاً ذلك أنهم كانوا قد توارثوا عن آبائهم خرافة مآلها أن مصير العالم متعلّق بمصير الهيكل.
وصعد بهم الرب بعدئذ إلى جبل الزيتون، وفيما هو جالس، وكان الهيكل يُرى من بعيد بجماله الفتّان الذي خلب الألباب، فتقدّم إليه أربعة من الرسل هم بطرس ويوحنا ويعقوب وأندراوس، وسألوه قائلين: «قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجابهم يسوع وقال لهم انظروا لا يضلّكم أحد. فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويُضلّون كثيرين. وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا. لأنه لا بدّ أن تكون هذه كلها ولكن ليس المنتهى بعد. لأنه تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن ولكن هذه كلّها مبتدأ الأوجاع. حينئذ يسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي وحينئذ يعثر كثيرون ويسلمون بعضهم بعضاً ويبغضون بعضهم بعضاً. ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلّون كثيرين ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص. ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم. ثم يأتي المنتهى.
فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس. ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئاً. والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام. وصلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت. لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم ولن يكون. ولو لم تقصَّر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام. حينئذ إن قال أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا. لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يُضلّوا لو أمكن المختارين أيضاً. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم، فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا. ها هو في المخادع فلا تصدّقوا. لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان. لأنه حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور.
وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السموات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السموات إلى أقصائها…»(مت 24: 3 ـ 31).
يدلي الرب بهذه الكلمات ببيانات مهمة ويعلن نبوات صادقة متناولاً بالدرس حادثتين: الأولى هي حادثة خراب الهيكل، والثانية حادثة مجيء الرب ثانية ونهاية العالم.
خراب الهيكل والمدينة المقدسة:
وقد تمّت نبوات الرب عن الهيكل بحذافيرها بعد أن أدلى بها بأربعين عاماً. ذلك أن اليهود كانوا يظنون أن المسيح الذي سيظهر لهم يكون زمنياً دنيوياً يخلصهم من استعمار الرومان، فلم يؤمنوا بالرب يسوع ـ الذي مملكته ليست من هذا العالم ـ وقام لهم بحسب نبوة الرب يسوع مسحاء كذبة وأنبياء أدعياء دجّالون. وتوالت الثورات وكثرت الاضطرابات التي أفرغت صبر الامبراطور الروماني، فأرسل إلى المدينة المقدسة حملة قوية مؤلفة من ثلاثين ألف محارب يقودها تيطس. فلما طلب تيطس من رؤساء اليهود التسليم رفضوا فبدأ بالهجوم، وحاصر المدينة المقدسة وأحاطها بسور جديد فأهلك بذلك سكّانها جوعاً، وكانت المجاعة كبرى وفاضحة بحيث جعلت الأمهات يبعن أولادهن للذبح وأكلت بعضهن أولادهن في جنون الجوع. وبعد حرب دامية دامت سبعة أشهر دخل تيطس إلى المدينة وكان حريصاً على بقاء الهيكل كأثر ثمين بفخامة بنائه وشهرته التاريخية. لكن أحد أفراد جيشه واسمه (ترنتيوس روفس) عصى أمر مولاه وأضرم النار في الهيكل فلما رآه تيطس خراباً أمر بإكمال تخريبه بنقض حجارته بعضها عن بعض وفلاحة ساحته لمحو أثره، كما خربت المدينة أيضاً بسكانها. وتمّت بذلك نبوة إرميا القائل «إن صهيون تُفلح كحقل وتصير أورشليم خِرَباً وجبل البيت شوامخ وعر»(أر 26: 18) وقول الرب عن المدينة: «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها.. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً.. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب»(مت 23: 37 ـ 39). وقوله له المجد عن الهيكل وحجارته «هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يترك فيها حجر على حجر لا ينقض»(لو 21: 6 ومت 24: 2).
وقد فصل أخبار حادثة خراب الهيكل، وخراب المدينة، المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي شاهد ذلك بأم عينه وهو لئن كان عدواً للمسيحية، ولكنه خدم المسيحية من حيث لا يدري لأنه أثبت صحة نبوة السيد المسيح.
أما المسيحيون فبناء على نبوة الرب وشرحه العلامات التي تحدث قبل خراب المدينة والهيكل خاصة وجود رجسة الخراب أي النسر الروماني وتمثاله في المحل المقدس، أي في الهيكل، وبناء على أمر الرب بقوله: «ولما تحدث هذه الأمور فالذي في اليهودية فليهرب إلى الجبال والذي على السطح لا ينزل إلى البيت ولا يدخل ليأخذ من البيت شيئاً والذي في الحقل لا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه.. ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام، وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت..» (مت 24: 16 ـ 20) فأتباع الرب، قبل حصار المدينة هربوا إلى بلدة وثنية يقال لها فلَّة (بلاّ) بقرب ضفة الأردن اليسرى وتخلّصوا من الهلاك.
أما وصية الرب: «أن يصلوا لئلا يكون هروبهم في شتاء أو في سبت» فذلك أن السفر في الشتاء صعب في تلك الأيام. أما السبت فلأن شريعة الفريسيين كانت تحرّم على اليهود أن يمشوا يوم السبت أكثر من ألفي خطوة فهربهم في ذلك اليوم كان من شأنه أن يزيد على هول الموقف خوفهم من التورّط بالخطية وهم على قاب أو أدنى من الموت.
أما عن المجيء الثاني ونهاية العالم القائم الآن، فسيسبق ذلك أيضاً ما سبق خراب الهيكل والمدينة المقدسة من ضيقات ومجاعات وزلازل واضطرابات في أماكن عديدة من العالم. وتقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة «ولكن ليس المنتهى بعد».
وسيسلم الأخ أخاه للموت والأب ابنه… وسيكون أتباع الرب مبغضين من الناس من أجل اسمه…
المسيح الدجَّال:
كما سيظهر الأنبياء الكذبة كقول الرب بنبوته: «سيأتي مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويأتون الآيات والعجائب فلا تصدّقوهم»(مت 24: 24) وآخر هؤلاء الأنبياء الكذبة سيظهر المسيح الدجال الذي سيخدع الكثيرين بمعجزاته الشيطانية، ويقول فيه الرسول بولس «الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قواه وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. لأجل هذا سيرسل اللّه إليهم عمل الضلال حتى يصدٌقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سرّوا بالإثم»(2تس 2: 9 ـ 12). والمسيح الدجال هذا هو المقاوم الذي يتعجرف متكبّراً على الإله «حتى أنه يجلس في هيكل اللّه كإله، مظهراً نفسه أنه إله» (2تس 2: 4). «ويعطي روحاً لصورة الوحش حتى تتكلّم صورة الوحش ويجعل الذي لا يسجدون لصورة الوحش يقتلون» (رؤ 13: 15).
وسيكون على أتباع الرب الذين لم يسجدوا لصورة الوحش «ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام»(مت 24: 31و32).
ومن جملة المختارين، الشاهدان اللذان نقرأ عنهما في سفر الرؤيا وهما من رتبة الأنبياء وسيظهران ويقاومان المسيح الدجّال «وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما تخرج نار من فمهما وتأكل أعداءهما، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما لا بدّ أن يقتل» (رؤ 11: 5). والسلطان الذي يعطى لهما في صنع آيات ومعجزات «ومتى تمما شهادتهما بالوحش الصاعد من الهاوية سيصنع معهما حرباً ويغلبهما ويقتلهما وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظيمة.. وينظر الناس من الشعوب والقبائل والألسنة جثتيهما ثلاثة أيام ونصف ولا يدعون جثتيهما توضعان في القبور ويشمت بهما الساكنون على الأرض ويهللون ويرسلون هدايا بعضهم لبعض لأن هذين النبيين كانا قد عذّبا الساكنين على الأرض… وبعد الثلاثة الأيام والنصف يدخل فيهما روح حياة من اللّه فيقفان على أرجلهما ويقع خوف عظيم على الذين كانوا ينظرونهما ويسمعون صوتاً عظيماً من السماء قائلاً لهما، اصعدا إلى ههنا فيصعدان إلى السماء في السحابة وينظرهما أعداؤهما»(رؤ 11: 11و12). ويقول بعضهم أن هذين النبيين الشاهدين هما إيليا وأخنوخ اللذان لم يذوقا الموت بعد. إذ لم يوجد أخنوخ لأن اللّه أخذه إلى عنده. كما أن إيليا صعد إلى السماء بمركبة نارية’
مجي الرب فُجاءة:
ويوصينا الرب ألاّ نفتش عنه في البراري والقفار «لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان. لأنه حيثما تكون الجثة فهناك تجتمع النسور. وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السموات تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض. ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير»(مت 24: 28 ـ 30).
فتزعزع قوات السماء يفقدها توازنها، وإذا فقد التوازن بين الأجرام السماوية تزول قوة الجاذبية فيها فتتساقط، وكما يقول الرسول بطرس: «ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلّها تنحلّ أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى. منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحلّ السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب. ولكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر»(2بط 3: 10 ـ 13).
وسيأتي الرب يسوع على متن السحب كما رآه التلاميذ صاعداً إلى السماء حيث أخفته سحابة منيرة عن عيونهم. والسحابة علامة للظهور الإلهي فمن السحابة كلم اللّه موسى وسحابة ملأت هيكل سليمان وسحابة ظلّلت يسوع على جبل التجلّي.
حينئذ يسمع الأموات صوت ابن اللّه فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة (يو 5: 29) «حينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟» (1كو 15: 54و55) وفي هذه اللحظة يختطف الأبرار المُقامون من الأموات وكذلك الأحياء المتغيرون يُخطفون جميعاً مع الرب أيضاً في السحب وسيصعد هذا الموكب العظيم إلى السماء بقيادة الرب يسوع الذي كتب عنه أنه «آت بأبناء كثيرين إلى المجد»(عب 2: 10) وسيقول «ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم اللّه»(عب 20: 13) ويقول للآب «الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد»(يو 17: 12).
المنتهى:
ويتبع المجيء الثاني المنتهى. هذا ما نفهمه من نص سؤال الرسل للرب يسوع «قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر»(مت 24: 3) فيتبع مجيء السيد المسيح ثانية منتهى الدهر، أي نهاية العالم القائم (1كو 15: 24) وهذه النهاية هي انقضاء ملك المسيح كفادٍ للعالم، ونهاية كل شيء بحسب تعبير الرسول بطرس (1بط 4: 7).
القيامة العامة الواحدة:
يخبرنا الكتاب المقدس بأن الأموات سيقومون جميعاً في منتهى الدهر أي أن نفوسهم ستتّحد بأجسامهم وهذه القيامة هي القيامة العامة الواحدة الوحيدة التي لا ثانية لها. وهي قيامة الأموات كافة: الأبرار فيهم والأشرار. على حد قول الرسول بولس «ولي رجاء باللّه في ما هم أيضاً ينتظرون أنه سوف تكون قيامة للأموات الأبرار والأثمة»(أع 24: 15) ويقول صاحب الرؤيا عن الرب يسوع: «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض»(رؤ 1: 7). فإذ ستنظره كل عين حتى عيون الذين طعنوه لا بدّ من أن تكون القيامة شاملة جميع الناس بجميع طبقاتهم واتجاهاتهم الصالحين والطالحين وهذا واضح أيضاً من قول الرب يسوع القائل: «لا تتعجّبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»(يو 5: 29) ولا يسبق الأحياء الأموات في القيامة العامة، على حد قول الرسول بولس: «فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه بهتاف، بصوت رئيس الملائكة وبوق اللّه ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 15 ـ 17). فبقول الرسول «الأموات في المسيح سيقومون أولاً»(1تس 4: 16) لا يعني أنه توجد قيامتان الأولى للأموات والثانية للأحياء.
فلا يوجد إلا قيامة واحدة عامة، لا يسبق فيها الأحياء الأموات، بل الأموات في المسيح يقومون أولاً ثم يخطفون مع الأحياء لملاقاة الرب في الجو.
أما قول الرسول بولس «لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبّهاً بموته. لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات. وليس أني قد نلت أو صرت كاملاً ولكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع»(في 3: 11و12). فالرسول يعني «بقيامة الأموات» قيامة من الموت الأدبي، فالتعبير مجازي ولا غرو فقد استعمل الرب يسوع هذا التعبير ذاته عن قيامة الإنسان مع الموت الأدبي بقوله: «الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن اللّه والسامعون يحيون»(يو 5: 25).
معنى المُلك ألف سنة:
يعتقد بعضهم أنه عند مجيء ربنا يسوع المسيح ثانية ستكون قيامة بالجسد خاصة للأبرار والذين استشهدوا من أجل اسمه له المجد وسيملكون معه ملكاً أرضياً سعيداً لمدة ألف سنة في المدينة المقدسة. مستندين بذلك إلى آية صاحب الرؤيا عن الأبرار «فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة»(رؤ 20: 4). وإن بداية الألف سنة هي موت المسيح الدجال وإزالة دولته، وحينئذ يقوم الأبرار من الموت بأجساد روحية باقية غير فانية ولا متألمة وتتّحد بها نفوسهم ويملكون مع المسيح ألف سنة ملكاً أرضياً سعيداً، وإن الشيطان يكون معتقلاً في هذه المدة. وإن هذا الملك تصحبه التصرّفات العادية كالحرث والنسل، وإن في هذا الوقت يتمّ قول أشعيا «يسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي..»(اش 11: 6 ـ 9) كما كان في جنة عدن وسفينة نوح.
وقد اعتقد بذلك بابياس الراعي أسقف هيروبوليس بأسيا الصغرى سنة (110 ـ 216م) وإيريناوس أسقف ليون الذي نبغ سنة (170م) واعتبرت الكنيسة رأييهما مخالفين لما تسلّمته من الرسل عن الرب يسوع الذي قال لبيلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلَّم إلى اليهود…»(يو 18: 36) وإن الطابع العام لمملكة السيد المسيح هو الطابع الروحي الذي فيه يملك على القلوب، ولذلك فقول صاحب الرؤيا لا يُفَسَّر حرفياً بل مجازياً ويعني نشر الإنجيل المقدس في أقطار العالم وسيطرته على قلوب الشعوب وتأثيره فيهم. وقد رفض آباؤنا السريان التفسير الحرفي لما ورد في سفر الرؤيا عن الملك الألفي وهكذا فعل كبار آباء الكنيسة في القرون الأولى، منهم القديس غريغوريوس الكبير في القرن الرابع الذي تكلّم عن ذلك بإسهاب.
وأخذ آباء الكنائس الرسولية وعلماؤها كافة برأي المُلك الروحي ما عدا بعض علماء من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشقيقة وفي مقدّمتهم العلاّمة ابن كاتب قيصر الذي عاصر أولاد العسال في القرن الثالث عشر للميلاد وقَبِل وإيّاهم برأي المُلك الألفي الحرفي بل تطرف كثيراً حتى أنه أخذ بنظرية تعيين سنة مجيء الرب ثانية. وهذه النظرية تحدد سنة (1996) لبدء الدولة الدجالية (ومدتها ثلاث سنين ونصف) حسب سفر الرؤيا (13: 5و6) بالتفسير الحرفي. وفي نحو سنة 2000م سيأتي المسيح ثانية وهذه السنة هي بداية ملكه الألفي (كذا).
إن تحديد موعد المجيء الثاني للسيد المسيح يضاد فكرة اللّه التي جعلت القصد الرئيسي من الكلام عن المجيء الثاني تنبيه المؤمنين وأعدادهم لاستقبال الرب بمجيئه الثاني (انظر 2تس 2: 1 ـ 2).
لقد حاول العديدون مثل العالم القبطي الكبير ابن كاتب قيصر، تعيين سنة مجيء الرب ثانية وفشلوا فشلاً ذريعاً. فالرب يسوع لم يضع بسلطاننا معرفة موعد مجيئه.. وهو لئن أعطانا بعض علامات مجيئه، إنّما يريد أن نكون دائماً مستعدّين للقائه، بقوله: «اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم. واعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنّون يأتي ابن الإنسان» (مت 24: 42 ـ 44) «اسهروا وصلّوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت»(مر 13: 33). وبناء على هذه الوصية كان الرسل مستعدين دائماً للقاء الرب، حتى إن الرسول بولس ظنّ أن الرب يأتي والرسول بولس ما يزال على قيد الحياة، لذلك قال: «ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب»(1تس 4: 17).
وإذا فسّرنا «الملك الألفي» حرفياً سنصطدم بحقيقة ما سيحدث في مجيء الرب، فإن السماء والأرض ستنحلان عند ظهوره له المجد، فلا يوجد له مكان على الأرض ليملك إن أتى ليملك ملكاً دنيوياً، وهذا يؤيده الرسول بطرس بقوله: «ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحلّ العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحلّ أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحلّ السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب» (2بط 3: 10 ـ 12). وكما سبق وقلنا فإن القيامة العامة هي واحدة. ونكرر هنا قول الرب القائل: «لا تتعجّبوا من هذا فإنه ستأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»(يو 5: 27و28).
الدينونة العامة الواحدة:
لا تنال نفوس الأبرار الثواب وتدخل السماء، كما لا تنال نفوس الأشرار العقاب وتهبط إلى الجحيم حالاً بعد الموت. بل تنتظر النفوس كافة يوم القيامة لتتّحد بأجسادها فتنال ما تستحقه بعدالة: إمّا الثواب وإمّا العقاب. ذلك أن عدل اللّه لا يسمح أن تنال النفس وحدها السعادة أو العذاب طالما جسدها قد شاركها عمل الخير أو الشر في الحياة الدنيا. النفوس خالدة لا تموت، وتبقى نفوس الصالحين بعد انفصالها عن أجسادها سعيدة بعربون المجد إلى يوم القيامة في الفردوس مع نفس اللص التائب الذي وعده الرب على الصليب بأن يكون معه في ذلك اليوم في الفردوس، والفردوس هو غير الملكوت الذي سيرثه الأبرار في السماء بعد الدينونة. وكذلك تبقى نفوس الأشرار محفوظة في الهاوية وتشعر بخوف ورعدة مما ستناله من العذاب بعد الدينونة في جهنم ويؤنّبها الضمير على ما اقترفته من آثام..
ولا يقضى بالسعادة الأبدية، ولا بالعذاب الأبدي، إذن إلا في يوم الدينونة العظيم حيث تكون النفوس قد اتّحدت بأجسادها.
ولو كانت النفوس تنال السعادة الكاملة أو العذاب الكامل قبل الدينونة العامة لما كانت الحاجة إلى القيامة العامة. ولكن عدالة اللّه اقتضت أن تتّحد النفوس بأجسادها ثم يقف الإنسان بنفسه وجسده أمام منبر المسيح ليدان على أعماله وأقواله وأفكاره ويصدر عليه الحكم الأخير بالنعيم أو العذاب. وهذا واضح من أقوال الكتاب المقدس، فقد قال صاحب الرؤيا على لسان الرب يسوع: «ها أنا آتي سريعاً وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله»(رؤ 22: 12). وقال الرب «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله»(مت 16: 27) «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم عن بعض كما يميِّز الراعي الخراف من الجداء فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم. ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته… فيمضي الأشرار إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية»(مت 25: 31 ـ 46).
فلا ينال الأبرار الثواب ولا الأشرار العقاب إلا بعد القيامة العامة والدينونة العامة، وإصدار الحكم على كل إنسان. وبهذا الصدد يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في تفسير آية الرسول بولس (2كو 4: 13و14) «فإن لنا روح الإيمان نفسه» ما يأتي: «إن بولس يقول إنه لم ينل الإكليل بعد هو ولا أحد آخر غيره من الذين أرضوا اللّه منذ الابتداء ولا ينالونه أيضاً حتى يوافي كل العتيدين أن يكملوا حتى الانقضاء ثم يثبت القديس أنه من الواجب أن يصير الأمر على هذه الصفة ليزيد الصديقين طرباً وتهليلاً من حيث أنّهم كلهم أخوة وجميعهم واحد. وفرح الواحد منهم يصيب الآخر حتى أن الآب السماوي يفرح عند ذلك فرحاً زائداً بسروره بأولاده كلهم مجتمعين إلى واحد…. فاعتبروا أنتم الأهمية الكائنة بأن ابراهيم الخليل وبولس الرسول مقيمان بانتظاركم حتى تكملوا أنتم أيضاً ليمكنهم أن ينالوا عند ذلك الثواب لأن الآب سبق فقال لهم أنه إن لم توافوا أنتم أيضاً لا يعطيهم ذلك».
السماء الجديدة أو الحياة الأبدية:
يقول يوحنا في رؤياه: «ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع. ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام اللّه، وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات ممّا هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا» (رؤ 20: 11و12). وقال الرسول بطرس «ولكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 13).
لا يمكننا أن ندرك بعقولنا البشرية ماهية هذه السموات، وأن نحدّد موقعها ونعرف ما تحويه من كائنات روحية. وكل ما نعرفه عنها هو ما سمح اللّه بإعلانه بالوحي الإلهي ومنه نعلم أن السماء هي حالة السعادة الدائمة مع اللّه وملائكته وهي أيضاً حالة المجد السامق والقداسة التامة والسلطة المطلقة. فمن يرث السماء يرث الحياة الأبدية التي وصفها الرسول بولس بقوله: «ما لم ترَ عين وما لم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه اللّه للذين يحبّونه»(1كو 2: 9).
فالسماء بالنسبة إلى المؤمنين الصالحين هي المكان الذي يعده ابن اللّه لهم إتماماً لوعده لتلاميذه بقوله: «أنا أمضي لأعد لكم مكاناً وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً»(يو 14: 3) وحيث المسيح في السماء فالحالة حالة مجد لا يفنى، وصاحب الرؤيا رأى أولئك المنتصرين مع الرب ويصفهم بقوله: «قد غسلوا ثيابهم وبيّضوها في دم الخروف من أجل ذلك هم أمام عرش اللّه ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله والجالس على العرش يحلّ فوقهم. لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية ويمسح اللّه كل دمعة من عيونهم» (رؤ 7: 14 ـ 17).
ولما جادل اسطيفانس اليونانيين، وقد حنقوا عليه بقلوبهم وصرّوا بأسنانهم: «وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد اللّه ويسوع قائماً عن يمين اللّه، فقال: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين اللّه»(أع 7: 54 ـ 56).
والكلام عن اليمين واليسار كلام مجازي، إذ أن اللّه تعالى روح محض لا يحدّه مكان، وموجود في كل مكان، فلا يفهم الكلام حرفياً بل يكنى باليمين عن مكان المجد والسلطة وعن اليسار بعكس ذلك. وهذا هو المفهوم من قول صاحب المزامير «وقال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك»(أع 2: 34و35) فيعني قول الآب السماوي لابنه الحبيب: لك أعطي السلطان والمجد فتخضع لك أعداؤك.
ووعد الرب المؤمنين قائلاً: «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ 3: 21) هذا هو الميراث الذي لا يفنى ولا يضمحل المحفوظ في السموات لأجلنا (1بط 1: 4).
وسيكون الأبرار في السماء كملائكة اللّه (مت 22: 30) وسيضيئون نوراً ومجداً كقول الكتاب «حينئذ يضيء الصديقون كالشمس في ملكوت أبيهم»(مت 3: 43).
ويقول الرسول بولس «ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده»(في 3: 20و21) وهو يريد بجسد مجده هيئته في وقت تجلِّيه حيث قيل «إن هيئته تغيّرت وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور»(مت 17: 2) ففي السماء سنكون بملء قامة المسيح شبّاناً كاملي السن كاملي الصفات، كاملين في الجمال، كاملين في القوة، كاملين في المعرفة، وهكذا تعاد إلينا صورة اللّه التي كانت لنا يوم خلقنا اللّه على صورته كمثاله.
وفي السماء سيلتقي الأتقياء الرب يسوع، وسيعرف المؤمنون بعضهم بعضاً كما عرف التلاميذ موسى وإيليا على جبل التجلّي. ويلتقي المؤمنون الآباء والأنبياء والقديسين والأتقياء والشهداء والرسل الأطهار والأقارب والأصدقاء والأحباء. فما أسعد الحياة الأبدية في السماء.
عقاب الأشرار:
قال الرب يسوع «فيمضي هؤلاء (الأشرار) إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حيوة أبدية»(مت 25: 46) وقال الرسول بولس: «بَيِّنَةً على قضاء اللّه العادل أنكم تؤهلون لملكوت اللّه الذي لأجله تتألمون أيضاً إذ هو عادل عند اللّه، إن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً. وإيّاكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته. في نار لهيب معطياً نقمة للذين لا يعرفون اللّه والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح. الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته»(2تس 1: 5 ـ 9).
فقد أنذر اللّه الخاطئ، بوسائل عديدة، وسبل شتّى ليتوب ويعود إليه تعالى. فإذا لم يرعوِ فعقابه الأبدي صارم، بهذا الصدد يقول الرسول بولس للخاطئ: «ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة اللّه العادلة الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله»(رو 2: 5و6) «فهو ذا لطف اللّه وصرامته، أما الصرامة فعلى الذين سقطوا، وأمّا اللطف فلك إن ثبتَّ في اللطف، وإلاّ فأنت أيضاً ستقطع»(رو 11: 22) وقال الرسول بطرس إن اللّه «يحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين» (2بط 2: 9).
تفاوت العقاب:
«وسيجازي (الرب) كل واحد حسب أعماله»(رو 2: 5و6) فيتوقّف عقاب الإنسان على قدر معرفته وتمييزه بين الخير والشر والحق والضلال. فاليهود الذين لم يؤمنوا بالرب يسوع ينالون عقاباً صارماً، لذلك قال عنهم له المجد «لو لم أكن قد جئت وكلّمتهم لم تكن لهم خطية. أما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم»(يو 15: 22). وقد حكم الرب بأن خطية اليهود عظيمة حيث قال لبيلاطس «الذي أسلمني إليك له خطية أعظم» (يو 19: 11). وقال للكتبة والفريسيين: «ويل لكم أيّها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تطيلون صلاتكم لذلك تأخذون دينونة أعظم»(مت 23: 14). كما أعطى الويل لكورزين وبيت صيدا وقال «إن صور وصيدا تكون حالتهما أكثر احتمالاً يوم الدين مما لكما» (مت 11: 20 ـ 24) فخطية العارف إذن كبيرة وإن صغرت.
جهنم:
قال الرب يسوع «هكذا يكون في انقضاء العالم يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (مت 13: 49و50).
إن أتون النار هذا يدعوه الرب يسوع في موضع آخر (جهنم) ويعتبر هذا المكان محلاً للعقاب الأبدي بقوله لتلاميذه: «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد.. بل بالحري خافوا من الذي بعدما يقتل له سلطان أن يلقي في جهنم، نعم أقول لكم من هذا خافوا»(لو 12: 4 ـ 6). وقال الرب أيضاً: «من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم»(مت 5: 22).
وقد أعدت جهنم لإبليس وملائكته الذين لم يحفظوا رئاستهم بل سقطوا من نعمة اللّه فحفظهم مقيّدين «بقيود أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6) ويقول عنهم الرسول بطرس «في سلاسل الظلام طرحهم في جهنّم محروسين للقضاء»(2بط 2: 24). ويقول الرب يوم الدين للأشرار «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته»(مت 25: 41).
كما أضحت جهنّم المكان الأبدي لكل من يختار لنفسه إبليس إلهاً له فيخضع لأوامره ويعصي بذلك أوامر اللّه. وإن الأبالسة يعرفون مصيرهم لذلك قالوا للرب مرة: «ما لنا ولك يا يسوع ابن اللّه، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا»(مت 8: 29).
وقد دعا الرب العذاب الأبدي ظلاماً بقوله عن الأشرار: «يطرحون إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان»(مت 8: 12) كما دعاه دينونة بقوله: «كيف تهربون من دينونة جهنم»(مت 23: 33) و«يخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 29). كما يسميه هلاكاً بقوله: «الذين نهايتهم الهلاك»(في 3: 19) «والذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته»(2تس 1: 9) كما يدعوه ناراً بقوله للأشرار «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته»(مت 25: 41) «ويطرحونهم في أتون النار» (مت 13: 42) وجاء في سفر الرؤيا عن هؤلاء الطالحين أن «نصيبهم في البحيرة المتّقدة بنار وكبريت»(رؤ 21: 8) «وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طرح في بحيرة النار» (رؤ 20: 15).
وهذه الألفاظ هي صفات وتسميات حقيقية للمكان الذي أعده اللّه لعذاب الأشرار عذاباً أبدياً. ولو اعتبرت تلك الألفاظ مستعارة لدلّت على أن العذاب أشد وأقوى وأقسى ممّا نتصوّر.
وقد وصفت السعادة بكونها أبدية في السماء، وبهذا الصدد يقول الكتاب «يملك الرب إلى الدهر والأبد»(خر 15: 18) «أما قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين»(دا 7: 18) «والفاهمون يضيئون كالكواكب إلى الأبد»(دا 12: 3).
كما وصف العذاب أيضاً بكونه أبدياً فجاء في سفر الرؤيا: «يصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين»(رؤ 14: 11) «وسيعذبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين»(رؤ 20: 10) وقال الرسول يهوذا: «حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6) وقال الرب «يمضي هؤلاء (الأشرار) إلى عذاب أبدي»(مت 25: 46) و«نار أبدية»(مت 18: 8) ومن هذه الآيات نفهم أيضاً أنه لا يوجد للثواب والعقاب سوى مكانين، لا ثالث لهما وهما النعيم الدائم في السماء المكان الذي يثاب فيه الأبرار متنعّمين إلى الأبد، والجحيم الذي يتعذّب فيه الأشرار كعقاب لهم أبدي.
موقفنا من مجيء الرب يسوع ثانية:
يقف الناس من حقيقة المجيء الثاني مواقف عديدة فقسم لا يؤمنون بالحقائق الإلهية كافة، أولئك وصفهم صاحب المزامير بالجهل بقوله: «وقال الجاهل في قلبه ليس إله»(مز 14: 1). ودينونتهم صارمة، ومثلهم الغافلون غير المبالين أولئك الذين قال فيهم الرب: «كما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان، كانوا يأكلون ويشربون ويزوّجون ويتزوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع»(لو 17: 26و27). كان نوح طيلة مدة صنعه الفلك يعظ قومه ليتوبوا، وينذرهم بأن اللّه سيغرقهم بطوفان عام ولكنهم لم يبالوا بكلامه، وعدم مبالاتهم لم تمنع الطوفان، فحالما دخل نوح الفلك جاء الطوفان وأخذ الجميع، كذلك في مجيء الرب ثانية لا يمنع عدم مبالاة الناس بهذه الحقيقة الإلهية من مجيء الرب، وستنظره كل عين، وينوح الذين طعنوه… ولات ساعة الندم.
وقوم يستهزئون لدى سماعهم هذه الحقائق السامية فهم منهمكون بجمع المال، والتمرّغ بالشهوات، وقد سبق الرسول بطرس وتنبّأ عنهم بقوله: «عالمين هذا أولاً سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين أين هو موعد مجيئه. لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة»(2بط 3: 3و4) وتشبه حال هؤلاء ما جرى لجيل لوط الذي قال فيهم الرب يسوع: «كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع»(لو 17: 28). فلوط كان يسكن في سدوم يوم بلغت شرور أهلها إلى السماء، فغضب الرب عليهم فأرسل ملاكين لينذرا لوطاً ليخرج من المدينة لأن الرب مهلك المدينة وأهلها. فصدق لوط الرسالة وقبلها، وأخبر أختانه، وطلب إليهم ليرافقوه ولكنه صار كمازح في أعينهم، فتركهم وغادر المدينة، وإذا بالنار والكبريت يُحوِّلان المدينة وأهلها إلى رماد أسود.. فحالة الناس أيام نوح ولوط تشبه حالتهم أيّام مجيء الرب يسوع ثانية، بل تشبه حالة أغلب الناس في أيامنا هذه التي اتّصفت بالاستهتار بالحقائق الإلهية.
أما القسم الأخير من الناس، وهم قلة، فهم المنتظرون مجيء الرب بشوق عظيم، ويمثلهم بذلك صاحب الرؤيا الرسول يوحنا الذي يستهلّ رؤياه بقوله: «هوذا يأتي (المسيح) مع السحاب وستنظره كل عين»(رؤ 1: 7) ويختم رؤياه بقوله على لسان الرب: «أنا آتي سريعاً» ويوحنا يجيب الرب بشوق وإيمان: «آمين تعال أيّها الرب يسوع»(رؤ 22: 20).
هؤلاء أناس يمثّلون السماء على الأرض، فقلوبهم في السماء، وكنوزهم في السماء (مت 6: 21) وسيرتهم في السموات التي منها أيضاً ينتظرون مخلصاً هو الرب يسوع المسيح (في 3: 20) على حد قول الرسول بولس. لذلك سرجهم، كالعذارى الحكيمات، موقدة، وزيتهم في آنيتهم مترع. وكالأمناء المجتهدين يتاجرون بالوزنات وهم من الرابحين، وعندما يأتي سيدهم سيخطفون معه في الجو، ليرثوا معه ملكوته السماوي.