أحد تقديـس البيعة وهو بدء السنة الطقسية

اللحن: الأول

القراءات:
من أعمال الآباء الرسل الأطهار (10: 22ـ 38)
من رسالة مار بولس الرسول إلى العبرانيين (8: 1ـ 13)
الإنجيل المقدس بحسب الرسول متى (16: 13ـ 20).

«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلِنْ لك لكنَّ أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات». (مت 16: 17 ـ 19).

(بقلم قداسة سيدنا البطريرك المعظم مار إغناطيوس زكا الأول عيواص)

بعد سنتين ونصف السنة من بدء التدبير الإلهي العلني للرب يسوع بالجسد، كان لابدّ أن يعلن حقيقة تجسّده الإلهي جهراً أمام تلاميذه، وأنه ماشيحا المسيح المنتظر، وأنه مخلّص العالم وأنه ابن اللّه الوحيد. أغلب الذين التقوه من الناس ظنّوا أنّه مجرد نبي. مرّة قالوا عن يوسف النجار الذي كان خطيب أمه العذراء مريم أنه أبو الرب يسوع، ومرّة قالوا عنه ما قالوا، والرب يسوع يريدنا نحن أيضاً أن نتساءل عمّا يقوله الناس عنا. ففيما كان في قرى قيصرية فيلبس التي هي على الأغلب بانياس السورية سأل تلاميذه قائلاً: «ماذا يقول الناس عني إني أنا ابن الإنسان؟» فقالوا له: «قوم يقولون يوحنا المعمدان، آخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء» فقال لهم: «وأنتم من تقولون إني أنا؟. أجاب بطرس وقال: «أنت المسيح ابن الله الحي» فأجاب يسوع وقال لبطرس: «طوبى لك يا سمعان بن يونا فإن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت16: 16).

أيها الأحباء:
في هذا اليوم تحتفل الكنيسة المقدسة بأحد تقديس البيعة وهو بدء السنة الطقسية السريانية، كما هو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد، وعندما نذكر هذا الأحد نذكر ما تلوناه الآن من آيات مقدسة من الإنجيل المقدس عن تأسيس الكنيسة المقدسة وعن الوعد الذي أعطاه الرب لأتباعه الذين هم أبناء هذه الكنيسة ليتمسّكوا بالإيمان الذي يريدهم المسيح يسوع أن يتمسّكوا به. عندما نسمع الرب وهو يسأل التلاميذ عمّا يقول الناس عن الرب يسوع، نستغرب ونسأل أنفسنا عن عدم اكتشاف التلاميذ أولاً أنه خلال مدة سنتين ونصف السنة لم يدرك أولئك التلاميذ أن يسوع الناصري القدوس هو ابن اللّه. كانت السماء قد أعلنت ذلك جهراً يوم خرج من النهر على أثر نيله المعمودية على يد يوحنا، عندما انفتحت السماء وهبط الروح القدس بشبه حمامة وحلّ على هامة الرب يسوع ليميزه عن الجماهير، أعلن الآب السماوي عنه قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت3: 17). كما أعلنت السماء شهادتها عن الرب يسوع أمام ثلاثة من تلاميذه في جبل التجلي حيث رأوا هيئته وقد تغيرت، وثيابه صارت بيضاء كالثلج ووجهه لمع كالشمس وظهر معه إيليا الذي كان قد صعد إلى السماء حياً قبل ألف سنة من بدء تاريخ التجسد الإلهي، كما ظهر النبي موسى الذي مات في الجبل ودفنته الملائكة، ظهر أيضاً مع الرب يسوع في التجلي وصار صوتٌ من السحابة قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا» (لو9: 35). شهدت السماء بأن المسيح هو ابن اللّه كما شهد أيضاً بذلك بعض الناس، ولكن الكنيسة المقدسة اعتبرت شهادة هامة الرسل بطرس هي أيضاً شهادة السماء، الشهادة التي اعتمدتها لتكون أساس العقيدة الإيمانية به لأنها قيلَت بإلهام السماء، فالرب يسوع عندما سأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني إني أنا» نرى الآراء الكثيرة لم تكن آراء باطلة، كانت مبنية على تعاليم وتقاليد اليهود لذلك أجابوا الرب يسوع قائلين: «قوم يقول أنك يوحنا المعمدان»، هيرودس الملك نفسه عندما سمع أن الرب ابتدأ يعلن للناس «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت4: 17) قال: هل هذا يوحنا الذي قطعتُ هامته في السجن قد قام من بين الأموات؟ وقوم قالوا أنه إيليا النبي الناري الذي اتصف بالغيرة ومحاربة الشر، الذي صعد إلى السماء حياً قبل هذا التاريخ بنحو ألف سنة في مركبة نارية ولم يذق الموت الطبيعي، وظهر مع الرب يسوع على جبل التجلي بعد حادثة اعتراف بطرس بالرب يسوع أنه ابن اللّه الحي، وبظهوره هذا أعلن لنا أن المسيح ليس إيليا كما يظن بالمسيح بعض اليهود معاصريه، وثانياً: أن الرب نفسه عندما سأله التلاميذ الذين كانوا معه في التجلي «لماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟»، قال أن إيليا قد جاء ولم يعرفوه وفعلوا به ما فعلوا. ذلك لأن يوحنا المعمدان بغيرته ومقاومته الشر اعتُبر أنه جاء بروح إيليا وغيرته الدينية حيث دعا الناس بالتهديد والوعيد أن يتوبوا ويعودوا إلى اللّه.

ثم قالوا أيضاً ربما إرميا. كان هناك تقليد عند اليهود أن إرميا النبي ذلك الذي كان قد نادى بالويل والثبور على أمة اليهود وأعلن لها بأنه رأى بعين النبوة ما سيجري لتلك الأمة من الدمار وعن خراب أورشليم، كان التقليد اليهودي قد انتشر بين الناس أن هذا النبي يأتي قبل مجيء المسيح وسوف يفتش في الجبل عن تابوت العهد وعصا هارون وقسط المن وكل ما كان قد أُخفي عن اليهود من الأواني المقدسة، ثم يبدأ بتجديد الهيكل فيأتي المسيح. هذه التعاليم الباطلة الجسدية غير الروحية كانت منتشرة بين اليهود، لذلك قال التلاميذ للرب يقولون أيضاً أنك إرميا النبي. أما هو فالتفت إلى التلاميذ وقال: «وأنتم من تقولون عني إني أنا». بطرس الذي عرفناه أنه هامة الرسل وعرفناه أنه كان مقدام الرسل وكان شجاعاً وكان أكبر منهم جميعهم سناً أجاب الرب على سؤاله قائلاً له: «أنت المسيح ابن اللّه الحي»، فأجابه الرب قائلاً: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس ـ أنت كيفا بالسريانية أنت بطرس باليونانية أي الحجر لا الصخر وعلى هذه الصخرة على هذه شوعا بالسريانية وبترا باليونانية على هذه الصخرة، صخرة الإيمان بالمسيح يسوع انه ابن اللّه الحي ـ على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». ليس هذا فقط بل التفت إلى بطرس وقال له: «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت16: 19).

أجل إن الرب لأول مرة خلال السنتين ونصف السنة يلفظ كلمة كنيسة حيث بدأ يؤسّس كنيسته، وعنى بالكنيسة المؤمنين به إيماناً متيناً ثخيناً أنه ولئن ظهر للناس كإنسان ولكنه هو ابن اللّه، ابن اللّه الوحيد، ابن اللّه الحي. وعلى هذه الصخرة قال الرب أبني كنيستي، وهذه صخرة الإيمان به أنه ابن اللّه، فمن لا يؤمن بأن المسيح هو ابن اللّه لا يحق له أن يكون عضواً في الكنيسة، وليس هذا فقط، بل إن تأسيس الكنيسة كان يحتاج إلى من يقوم فيها نائباً عن المسيح في إدارة شؤونها، لذلك حالاً منح الرب سلطان الكهنوت في حلّ الخطايا وربطها، لهامة الرسل بطرس أولاً، وبعدئذ، بعد قيامته أعطى هذه الموهبة وهذا السلطان للرسل كافة. ويردف الرب قائلاً: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». معنى أبواب في هذه الآية المقدسة هي السلطات والقوى، فنحن في الاصطلاح الاجتماعي والمدني مثلاً نعرف أن في عهد العثمانيين كان هناك ما يُسمّى بالباب العالي أي السلطة العليا في تلك الدولة. إذن أبواب الجحيم هي السلطة العليا الشريرة لإبليس الذي ربطه الرب في الجحيم هذه السلطة لا تستطيع أن تسيطر على الكنيسة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. لقد قسا الدهر على الكنيسة، وأُثيرَت ضدّها الاضطهادات القاسية التي أثارها الملوك والرؤساء والأمم والشعوب ضد الكنيسة المسيحية، ولكنها بقيت ثابتة لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، إن المسيح في وسطها فلن تتزعزع. كم قامت فيها البدع والهرطقات الباطلة لكي تفسد تعاليمها لتنكر أن المسيح هو ابن اللّه! لكن الكنيسة بشخص رعاتها الصالحين تغلبت على هذه التعاليم الغريبة الخبيثة وطردت وحرمت الهرطقات وأصحابها وبهذا الخصوص يقول الرسول بولس: «اعزلوا الخبيث من بينكم» (1كور5: 13).

واليوم نحتفل بأحد تقديس البيعة وهو في طقسنا الكنسي السرياني الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد والتي نحتفل بها، لكي تتهيّأ عقولنا لتقبل عقيدة تجسّد ابن اللّه الحي كما يصفه الرسول بولس: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى اللّه ظهر في الجسد تبرّر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أومن به في العالم رفع في المجد» (1تيمو3: 16)، فالمسيح يسوع ربنا ظهر كإنسان ونقول عنه أنه ابن اللّه بل أنه «اللّه ظهر بالجسد» لذلك الكنيسة تهيّئ عقولنا لتقبل هذه العقيدة السمحة قبل احتفالنا بعيد ميلاد الرب بالجسد.

أجل لقد دُعيَت الكنيسة مقدسة لأن مؤسسها قدوس، هذا ما قاله الملاك للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل به قائلاً إن: «القدوس المولود منك يدعى ابن اللّه» (لو1: 35). وقد تجسّد من الروح القدس ومن العذراء مريم وصُلب عوضاً عنّا، فبرّرنا وقدّسنا وأهّلنا لنصير أولاداً لأبيه السماوي. لذلك فالكنيسة تدعى مقدسة، والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «كما أحبّ المسيح الكنيسة أيضاً وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدّسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف5: 25 ـ 27).

فالكنيسة إذن مقدّسة والمسيح القدوس هو أسّسها وأعضاؤها أيضاً يجب أن يكونوا قديسين، لذلك نادى الرب يسوع بالتوبة أولاً في بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد قائلاً: «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه» وملكوت اللّه هو الكنيسة بالذات فهي على الأرض تُدعى «الكنيسة المجاهدة» لأنها تجاهد في حرب مستمرة ضد إبليس وجنده لتبقى نقية طاهرة، ليس فقط في العقيدة، بل أيضاً في السيرة المسيحية الصالحة. آباؤنا ـ ونحن كنيسة أنطاكية ـ آباؤنا الأنطاكيون نفتخر بهم لأنه كما يذكر سفر أعمال الرسل «دُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً» (أع11: 26)، لماذا؟ لأنهم رأوا فيهم أُناساً مؤمنين صالحين، مستقيمي السيرة كالمسيح يسوع، فدُعوا مسيحيين. هذه هي القداسة لكن: هناك أمر لابدّ أن نفهمه عندما نرى أن ليس جميع أعضاء الكنيسة أعضاء قديسين، وعندما نعلن على مذبح الرب عن القربان المقدس قودًشا لقدًيشا ولدًكيا زدق دنةيؤبون بلحود الأقداس تمنح فقط للقديسين والأنقياء، عندما نعلن هذا نعترف أن العديد من الناس الذين يعتبرون في عداد أعضاء الكنيسة المقدسة ليسوا قديسين، ومع هذا فهم في عداد أعضاء الكنيسة.

الرب يسوع ضرب لنا مثلاً عن الحنطة الجيّدة التي زرعها إنسان في حقله ثم جاء عدوه وزرع مع الحنطة الزؤان فنبت الزؤان مع الحنطة، وعندما أُخبر صاحب هذا الحقل أن زؤاناً ينبت مع الحنطة، وسأله عبيده إن كان يرغب في أن يقلعوا الزؤان أجابهم قائلاً: «دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد» (مت13: 30). في الكنيسة يوجد أشرار ويوجد صالحون، ونحن نصلي دائماً ونقول مطل طبًا حوس عل عوًلا أي من أجل الصالحين، يا رب أشفق على الأشرار. لذلك الكنيسة المقدسة ولئن نبت فيها الزؤان والحنطة في آن معاً، والرب يوصي ألا نقلع الزؤان لئلاّ نقلع معه الحنطة، فإن ذلك الفصل سيكون يوم القيامة، يوم يُفصل الزؤان عن الحنطة النقية الطاهرة. فنحن عندما نحتفل بتقديس البيعة علينا أن نؤمن أن كل واحد منا كنيسة، كما يقول مار أفرام السرياني أن كل واحد منّا هو كنيسة، كما يقول الرسول بولس أن كل واحد منّا هو هيكل اللّه وروح اللّه حال فيه، فعلينا أن نجعل هذا الهيكل طاهراً نقياً مقدساً لكي يثبت روح اللّه أو الروح القدس في هذا الهيكل، ويكون الإنسان الذي ولد في الكنيسة من جرن المعمودية، وُلد ليكون ابناً للّه بالنعمة يكون حقاً مستحقاً كابن أن يرث ملكوت أبيه السماوي، فإذا أخطأ أحدنا علينا أن نتوب لنعود إلى اللّه أبراراً قديسين فنستحق أن نحيا لربنا على هذه الأرض ونستحق بعد العمر الطويل أن نرث ملكوته السماوي والتي هي الكنيسة المنتصرة، كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.