التقليد

بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص

التقليد هو التعليم الروحي الذي ورثناه من الرسل الأطهار وآباء الكنيسة القديسين وهو إما إلهي، أو رسولي، أو أبوي.
أما التقليد الإلهي، فهو التعليم الذي تسلمه الرسل الأطهار من السيد المسيح مباشرةً ومشافهةً، غير مدوّن بكتاب، ثم دوّنوه بإلهام الروح القدس وإرشاده. ويتضمن أسفار العهد الجديد، وحقائق الإيمان.

أما التقليد الرسولي، فيتضمن تعاليم الرسل، وقوانينهم، وتسليماتهم المقدسة، التي تسلمها منهم تلاميذهم وخلفاؤهم الأقربون مشافهة، وهي مبنية على التقليد الإلهي الذي منه يستمد التقليد الرسولي قوته. وهذه التعاليم والتسليمات ولئن لم تدون بين دفتي الكتاب المقدس، غير أنها مطابقة لتعاليمه، ولا تناقضها وتعدّ الشاهد الأمين على صحة الإعلان الإلهي، والمفسّر الصحيح له، بل المساعد على فهمه. ويشتمل التقليد الرسولي على ما وضعه الرسل من دساتير الإيمان التي مصدرها اللّه، وعلى أسرار الكنيسة السبعة، وعلى القوانين التي سنّوها، والطقوس التي نظموها، كطقس القداس الإلهي.

أما التقليد الأبوي، فهو ما تسلّمته الكنيسة المقدسة منذ فجر تاريخها من آبائها الميامين من تعاليم سامية، مبنيّة على تعاليم الرسل الأطهار، في تفسير العقائد، وشرح الكتاب المقدّس، وتنظيم الطقوس الدينية، وسنّ القوانين وخاصة قرارات المجامع المقدسة والقوانين التي سنّها بعض الآباء كالبطريرك قرياقس (817 +) ومؤلّفات هؤلاء الآباء.

قدم التقليد:
إن التقليد أقدم عهداً من كتابة الأسفار المقدسة. ففي نظام العهد القديم قبل كتابة الأسفار المقدسة بأجيال عديدة، كان الخلف يتسلّم من السلف، الاعتقاد بالإله الواحد، والسير بموجب الشريعة التي تُعرف بشريعة الضمير. وأخذ الواحد عن الآخر عبادة اللّه وتقديم الذبائح الحيوانية له تعالى، واعتُبر بكر العائلة كاهنها وزعيمها المدني في آن واحد، كما تناقل المؤمنون، جيلاً عن جيل، أخبار القدامى والحوادث التاريخية مشافهة، من ذلك قصة خلق العالم، وخلق الإنسان، وسقوطه في الخطية، وتاريخ الفداء الذي يتضمّن تاريخ الآباء الأولين، ودعوة ابراهيم وتجربته، والعهد الذي قطعه اللّه معه ومع نسله، بسن شريعة الختان كعلامة لذلك، وغيرها من الحوادث التي جرت عبر الدهور، وأخذها الخلف عن السلف، حتى مجيء موسى النبي الذي دوّنها بإلهام ربّاني، كما تسلّم موسى الوصايا العشر شريعة مكتوبة، ودوّن سائر الشرائع الضرورية التي أخذها من اللّه تعالى، وعلى الرغم من كتابة الناموس فقد بقي التقليد مستمراً لدى شعب النظام القديم، لذلك فالكتاب المقدس يوصي الشعب قائلاً: «وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً من أجل ما صنع إلينا الرب حين أخرجنا من مصر» (خر 13: 8) و«اسأل أباك فيخبرك وشيوخك فيقولوا لك» (تث 32: 8)، وكان التعليم الشفهي ضرورياً أيضاً، لأن أغلب الشعب كان أمياً.

وفي المسيحية أيضاً سبق التقليد كتابة أسفار العهد الجديد. وذلك أن الرب يسوع لم يدوّن إنجيله، فلم يعطِه مكتوباً لرسله وأتباعه. بل كان يكرز ببشارة الخلاص، ويدعو الناس إلى التوبة. ولذلك سلّم الإنجيل المقدس إلى رسله الأطهار مشافهة، فحفظه هؤلاء على ظهر قلب، وكذلك فعل أغلب التلاميذ والتلميذات.

ولما أرسل الرب تلاميذه إلى العالم للكرازة بالإنجيل قائلاً: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها» (مر 16: 15) لم يأمرهم بكتابة هذه البشارة، كما لم ينوّه بعدم كتابتها، ولمّا طُلب من بعضهم أن يدوِّنوا ما بشروا به، دُوِّن الإنجيل المقدس، وذلك بإرشاد الروح القدس الذي صانهم من الخطل والزلل حسب وعد الرب لهم بقوله: «وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم»(يو 14: 26). وممّا يوضح هذه الحقيقة ما كتبه البشير لوقا في افتتاح الإنجيل الذي دوّنه قائلاً: «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقّنة عندنا، كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدّاماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً، إذ قد تتبّعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيّها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحّة الكلام الذي عُلِّمت به»(لو 1: 1 ـ 4) فالإنجيل المقدس الذي هو بشارة الخلاص، هو شهادة تلاميذ الرب يسوع عمّا شاهدوه أو سمعوه منه. وما دُوِّن في الإنجيل المقدس هو ذات ما بشّر به التلاميذ شفهياً أولاً. ولمّا دُوِّن في كتاب، أقرّت الكنيسة المقدّسة بإلهام الروح القدس، صحة الإنجيل الحقيقي، ورفضت الكتب المزوّرة، مبنيّة ذلك على شهادات الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار وخلفائهم الميامين، فالكنيسة المسيحية أقدم من كتابة أسفار العهد الجديد، ومرّ على تأسيسها فترة زمنية لم يكن لها خلالها أسفار مقدّسة مدوَّنة سوى أسفار العهد القديم، وكان المؤمنون يتداولون الإنجيل المقدس شفهياً، ويحفظونه على ظهر قلب، وينشرونه في العالم أجمع، وأول من دوّن الإنجيل المقدس هو الرسول متى وذلك باللغة الآرامية سنة 39 م وآخر سفر كتب من أسفار العهد الجديد هو سفر الرؤيا الذي كتبه يوحنا الرسول باليونانية بين سنتي (90 و100)م وإن كان التقليد الشريف أقدم من الأسفار المقدّسة المدوَّنة، وإن أثبتت الكنيسة المقدسة صحة هذه الأسفار وسلامتها، فإن هذه الأسفار أخذت سلطانها من الروح القدس مباشرة، هذا الروح الناطق بالأنبياء والرسل، الذي صان تعاليم الكنيسة وعقائدها، وألهم أباءها وذكّرهم بكل ما قاله المسيح لرسله وتلاميذه وأرشدهم إلى الحق لأنه روح الحق الذي من الآب ينبثق.

قال العلامة أوريجانس (185 ـ 253) «إني عرفت من التقليد الأناجيل الأربعة وإنها هذه وحدها» وقال أوغسطينوس (354 ـ 430) «إني ما كنت أؤمن بالإنجيل لو لم يقنعني بذلك صوت الكنيسة الجامعة».

وحيث أن التقليد هو أقدم عهداً من الإنجيل المدوَّن، فمن يقبل تعاليم الإنجيل المقدس، يُسلّم بالتقليد الإلهي والرسولي حتماً من حيث يدري أو لا يدري، ولا يمكن أن يقبل الإنجيل ويرفض التقليد، في الوقت الذي يُعدّ الإنجيل جزءاً من التقليد، والتقليد والإنجيل هما واحد، ولا يستغنى عن أحدهما، لأن الواحد منهما يكمل الآخر، وهناك نصوص عديدة في الإنجيل المقدس تدلّ على أن الرسل الأطهار لم يدوّنوا فيه كل ما قاله الرب يسوع، وكل ما عمله، وممّا يبرهن على صحة هذا، قول الرسول يوحنا في ختام الإنجيل: «هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا وتعلّم أن شهادته حق. وأشياء أُخَر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة»(يو 21: 24و25). كما قال أيضاً: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأمّا هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه»(يو 20: 30). فهذه الآيات الأخر الكثيرة، وهذه الأشياء الأخر الكثيرة، التي صنعها يسوع والتي لم تذكر في الإنجيل المدوَّن، صارت في ذمّة التقليد الشريف من ذلك ما علّمه الرب لتلاميذه، خلال ظهوراته في فترة الأربعين يوماً بعد قيامته وحتى صعوده إلى السماء، فقد جاء في سفر أعمال الرسل: «أنه ظهر لتلاميذه أربعين يوماً وتكلّم عن الأمور المختصّة بملكوت اللّه»(أع 1: 31). ولكن هذا السفر لم يذكر شيئاً عن هذه الأمور، ولم يدوِّن هذه التعاليم، ونحن على يقين بأنّ هذه التعاليم أعطيت شفهياً للمؤمنين فحفظوها وتداولوها وتناقلوها جيلاً عن جيل وصارت في ذمّة التقليد.

كما أن بعض الرسل والتلاميذ كتبوا الإنجيل المقدّس، وبعضهم كتبوا رسائل ضمّت إلى أسفار العهد الجديد، ولكن تلك الكتب لم تتضمّن كل ما بشّروا به العالم، عمّا قاله الرب يسوع وعمله خلال تدبيره الإلهي في الجسد، وبعض الرسل والتلاميذ لم يكتبوا شيئاً ولكنهم بشروا شفهياً، وبعضهم كتبوا ولم تصل إلينا كتبهم ضمن أسفار العهد الجديد، ولكن بعض تعاليمهم وصلت إلينا عن طريق التقليد، فقد تسلّمنا من آباء الكنيسة الأولين القوانين التي نسبت إلى الرسل، والأنظمة التي وضعوها لبنيان الكنيسة، كما تسلّمنا العقائد المهمة التي سلّموها شفهياً للكنيسة فلم تدوَّن في أسفار العهد الجديد بل مارستها الكنيسة منذ فجر وجودها. من ذلك تقديس يوم الأحد، بدلاً من السبت اليهودي، وعماد الأطفال، وغيرها من التسليمات الشفهية. قال الرسول يوحنا في رسائله: «إذ كان لي كثير لأكتب إليكم، لم أرد أن يكون بورق وحبر لأنّي أرجو أن آتي إليكم وأتكلّم فماً لفم»(2يو 12 و3يو 13و14) فهذا التعليم الذي سلّمه الرسول للكنيسة فماً لفم، هو التقليد الرسولي الشفهي الذي قد يكون شرحاً لحقائق الإيمان، أو توضيحاً للعقائد السمحة، أو تفسيراً لتعاليم الرب، أو قد يكون تنظيماً لأحد طقوس العبادة وغير ذلك. لأن الروح القدس قد ألهم الرسل والتلاميذ تكميل ما احتاجت إليه الكنيسة المقدسة من تنظيم حسب متطلّبات الزمن مثال ذلك إيجاد رتبة الشماسية في الكنيسة، وانتخاب الشمامسة السبعة ورسامتهم (أع 6: 1 ـ 8) ونهج طريقة عقد المجامع المقدسة بعقدهم مجمع أورشليم عام (51م) واتّخاذهم القرارات التي اعتبروها من الروح القدس لذلك كتبوا قائلين: «لأنه قد رأى الروح القدس ونحن»(أع 15: 28). ويظهر عمل الروح القدس خاصة لدى انتخاب الأساقفة وإرسالهم، فقد جاء في أعمال الرسل ما يأتي: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما»(أع 13: 2). ولم يكن دور الروح القدس في تنظيم الكنيسة مفاجئاً للرسل والتلاميذ، فقد سبق الرب وأنبأهم بذلك بقوله: «إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، أمّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق»(يو 16: 12). فهذا الإرشاد إلى جميع الحق ليس فقط ما دوِّن في الإنجيل المقدس بل أيضاً التعليم والتنظيم اللذين صار بإمكان التلاميذ فهمهما وتحمّلهما بعد أن حلّ عليهم الروح القدس، وهذا كله يوافق تعليم الإنجيل المقدس ولكنّه لم يدوَّن فيه، بل تناقله الآباء شفهياً وبهذا الصدد يوصي الرسول بولس تلميذه تيموثاوس قائلاً: «ما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلّموا آخرين أيضاً»(2تي 2: 2). ويقول لأهل تسالونيكي: «فاثبتوا إذن أيّها الإخوة وتمسّكوا بالتعاليم التي تعلّمتموها سواءٌ كان بالكلام أو برسالتنا» (2تي 2: 15) وفي صدد شرحه سرّ القربان المقدس لأهل كورنثوس، يوضح الرسول بولس حقيقة استناد التقليد الرسولي إلى التقليد الإلهي، بقوله: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أسلِم فيها أخذ خبزاً وشكر وكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم» (1كو 11: 23 ـ 30) ويختم الرسول بولس كلامه بقوله: «وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتّبها»(1كو 11: 34). وبهذا الكلام يؤجل الرسول بولس شرح بعض الأمور التنظيمية أو الطقسية إلى حين ذهابه لزيارتهم. وهذه الأمور التي سلّمها فماً لفم أي شفهياً وتداولتها الكنيسة وتناقلتها بالتقليد عبر الأجيال، قد صانها الروح القدس سليمة إلى يومنا هذا ومارستها الكنيسة الجامعة بمختلف اللغات وبموجب شتّى الحضارات المكانية، ذلك أن التقليد الأبوي أيضاً يستند إلى التقليد الرسولي في التنظيمات الطقسية والقوانين الكنسية، والتقليدان يستندان إلى التقليد الإلهي في التسليم بصحة الكتاب المقدس والعقائد الإيمانية.

وما تزال مكانة التقاليد منذ فجر النصرانية، رفيعة في الكنائس المسيحية الرسولية، فقد كُتب في تاريخ أوسابيوس القيصري عن القديس الشهيد مار إغناطيوس النوراني (107 +) تلميذ يوحنا الرسول أسقف أنطاكية الثالث ما يأتي: «ويقول التاريخ أنّه أرسل من سوريا إلى روما، وأصبح طعاماً للوحوش البرية بسبب شهادته للمسيح، وفي أثناء رحلته وسط آسيا، وكان تحت حراسة حربية شديدة، كان يشدّد الكنائس في المدن المختلفة حيثما حطّ رحاله، وذلك بعظات ونصائح شفوية… وينصحهم للتمسّك بتقاليد الرسل. وكان علاوة على هذا يرى من الضروري أن يدعم تلك التقاليد بأدلّة يكتبها، وأن يعطيها شكلاً ثابتاً ضماناً لسلامتها».